الوقت - أشار الدکتور سعد الله زارعي الخبير في شؤون غرب آسيا في مقال له، إلى أن 44 عاماً من صراع الغرب مع إيران وعدم توقف هذه المواجهة، تظهر قوة إيران الحقيقية ومكانتها، وحول سبب ازدياد الاجتماعات العربية في دمشق بدلاً من تل أبيب حيث قال: إن الغرب نفسه لم ير أن إيران ضعيفة، ولم يحلل أبداً أن مشاكلها ناجمةً عن ضعف إيران. .
بالطبع، هذه القاعدة تنطبق أيضًا على أي دولة قوية أخرى؛ فلا توجد دولة قوية تخلو من نقاط ضعف، ولا تعتبر نقاط الضعف في محيطها الجغرافي علامةً على ضعفها. وتقاس قوة إيران بتأثيرها على البيئة الدولية والإقليمية وعملية هذا التأثير.
ومن الأمثلة على هذه القوة تأثير إيران على الملف السوري، وبعبارةً أخرى، على المجال العربي. كما سمعتم في أنباء الشهر الماضي، تشكل في دمشق طابور من الدول العربية التي تحاول إعادة العلاقات السياسية مع سوريا! أي سوريا هذه؟ نفس سوريا التي أنفقوا مليارات الدولارات للإطاحة بحكومتها في مجموعة أكبر، فقط من أجل جريمة التحالف مع جمهورية إيران الإسلامية.
لا يزال التحالف بين البلدين، إيران وسوريا، قائماً ولم يحدث فيه أدنى تغيير، لكن الدول العربية المعادية لسوريا اصطفت لإعادة العلاقات معها. وفي هذا الصدد عدة أمور:
1- الحرب على إيران في الأعوام 1980 إلى 1988 صممت واتبعت بهدف سقوط الجمهورية الإسلامية، وشاركت فيها جميع الدول العربية تقريبًا. ولتحقيق هذا الهدف تم توفير مجموعة متنوعة من الامکانات والقدرات مثل تسليم جزر من قبل الكويت والأردن، إلى توفير مقاتلين من قبل مصر والأردن والسعودية، إلى بيع النفط للعراق بالوكالة من قبل الأردن والسعودية، والتبرع بعشرات المليارات من الدولارات من قبل جميع الحكومات العربية تقريباً.
في هذه الحرب الظالمة، كانت سوريا الدولة العربية الوحيدة التي وقفت إلى جانب الجمهورية الإسلامية على حساب شراء غضب الدول العربية على دمشق. والدول العربية التي فقدت أموالها في الحرب مع إيران، كانت تنتظر انتهاء الحرب لتدمير النظام السياسي السوري في الوقت المناسب.
ورأينا ما فعلوه بشعب وحكومة سوريا عندما سنحت هذه الفرصة. وإحدى هذه الحالات كانت إرسال مجموعات إرهابية متوحشة لم ترحم الصغير والكبير في سوريا. وواحدة من هذه الحالات كانت فرض تکلفة بمئات المليارات من الدولارات على سوريا.
2- اندلعت حرب عنيفة على لبنان في صيف 2006، بهدف القضاء على أهم تهديد على جوار الکيان الصهيوني. في هذه الحرب، وافقت الدول العربية أيضًا على تدمير حزب الله بأي ثمن، حتى لو كان ذلك يعني التدمير الكامل للبنان، وحول صعوبة هذه الحرب أشار السيد حسن نصر الله إلى الآية 11 من سورة الأحزاب{هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}!
خلال هذه الحرب دمرت مساحة قرابة 3000 كيلومتر مربع جنوب لبنان بالصواريخ والقنابل بما يكفي لتحرثها ست مرات! وتقول الوثائق إن هذه الحرب بدأت بطلب وإصرار من السعودية وبعد لقاءات متتالية مع بندر بن سلطان، رئيس جهاز المخابرات السعودية في ذلك الوقت مع السلطات العسكرية والأمنية الإسرائيلية وبتمويل كامل لتكاليفها. وكانت كراهية السعودية لشعب لبنان وحزب الله شديدةً، لدرجة أن "آل الشيخ" المفتي الوهابي للسعودية أعلن أنه "حرام" الدعاء لإنقاذ شعب لبنان المظلوم من هذه الحرب!
في هذه الحرب، تشرد أكثر من مليون لبناني عربي واستشهد المئات منهم. وكانت سوريا الدولة العربية الوحيدة التي وقفت إلى جانب المظلومين في هذه الحرب أيضًا. وعلى الرغم من معرفتها بالثمن الباهظ للوقوف إلى جانب لبنان، فتحت دمشق حدودها ومستودعات ذخائرها للمقاومة اللبنانية، وحالت دون أن تؤتي المؤامرة الإسرائيلية الغربية والعربية على لبنان ثمارها.
وبعد حوالي سبعة أشهر من هذه الحرب، فإن لجنة "فينوغراد" الإسرائيلية، التي تشكلت للتحقيق في أسباب هزيمة الجيش الإسرائيلي واستمرار المقاومة اللبنانية، صرحت بوضوح أن مساعدة سوريا للمقاومة اللبنانية حالت دون انتصار الجيش الإسرائيلي. وهنا أيضًا، بحثت الجبهة الإسرائيلية العربية المشتركة عن فرصة لإظهار كراهيتها العميقة للنظام والشعب السوري، وأظهرت ذلك بشكل قوي.
3- أظهرت الجبهة الغربية - العربية كل ما في جعبتها ووجهت ضربات قاسية لسوريا. قال حمد بن جاسم آل ثاني، رئيس وزراء قطر من 2007 إلى 2013، في مقابلة مع صحيفة "فاينانشيال تايمز" في 26 أبريل 2016: "ما حدث في سوريا كان نوعاً من لعبة دولية، وأمريكا أعطت السعودية وقطر الضوء الأخضر للتدخل في سوريا".
وقبله قال "رولان دوما" وزير خارجية فرنسا في الفترة من 1984 إلى 1993 في مقابلة تلفزيونية: "كانت بريطانيا مستعدةً لمهاجمة سوريا قبل عامين من بداية الربيع العربي".
إن مجرد اتخاذ قرار بشأن تدمير سوريا لم يكن كافياً، وكان ذلك بحاجة إلى أجواء دولية، وهو ما جعله ممكناً بسبب الفوضى التي أحدثتها أعمال الشغب في الدول العربية. لكن في هذا المشهد وقفت إيران إلى جانب سوريا، ولم تشك منذ اللحظة الأولى في أن مؤامرةً كبيرةً انطلقت ضد حليفتها ويجب احتواؤها بالقوة. وعلی الفور واجه الحرس الثوري وحزب الله اللبناني هذه المؤامرة.
كانت شدة التواطؤ الغربي والعبري والتركي والعربي ضد سوريا ووحشية الجماعات الإرهابية التابعة لها من الضخامة بحيث لم يتخيل أحد أن سوريا سيكون لها طريق للنجاة.
وفي هذا الصدد، قال الشيخ حمد بن جاسم في مقابلة مع قناة قطر الرسمية في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2017: "كان بشار الأسد صديقنا ولم تكن لدينا خلافات شخصية معه، لكن السعودية اختارتنا جميعًا بناءً على نصيحة أمريكا لنكون رأس الحربة في الحرب. في بداية الأزمة السورية ذهبت إلى السعودية وأخبرت الملك عبد الله بتفاصيل الأحداث، فقال: نحن معكم، تابعوا الموضوع، نحن في تنسيق معكم، لكن لتکن زمام الأمور بيدكم".
وأضاف حمد بن جاسم: "طُلب من أردوغان فتح حدوده مع سوريا، وفعلت تركيا ذلك بموافقة الولايات المتحدة، لتكون حدود تركيا ممرًا للسلاح والمال والقوات المسلحة إلى سوريا. أي شخص کان يريد الذهاب إلى سوريا کان يذهب أولاً إلى تركيا، بالتنسيق مع القوات الأمريكية، ثم يذهب إلى سوريا. وكل ما کان يراد أن يوزع في سوريا تم من خلال القوات الأمريكية والتركية وإخواننا السعوديين". وخلال هذه الحرب، استخدم الإرهابيون أيضًا المواد الكيميائية في خان العسل.
لكن رغم كل التكهنات، تغلب النظام السياسي السوري على الجبهة الهمجية أمامه، وهذه المرة واجهت الدول العربية هزيمةً ثقيلةً. خلال الحرب مع سوريا، شنت السعودية حربًا علی اليمن، واندلع هناك صراع عنيف بين السعودية وقطر فاحت منه رائحة الحرب، وتذبذبت العلاقات بين باكستان والسعودية إلى حد كبير، وعانت العلاقات بين السعودية ومصر من مشاكل كبيرة، کما تعثرت العلاقات بين تركيا والسعودية ودخلت العلاقات بين الأردن والسعودية في مأزق، وفي الحقيقة بدلاً من انهيار سوريا، عانت الجبهة المقابلة من الانهيار والأزمات المتتالية.
4- زار دمشق الشهر الماضي وزراء خارجية الإمارات والأردن ومصر، ورؤساء برلمانات العراق وعمان والإمارات والسلطة الفلسطينية وليبيا ومصر ولبنان، وسافر بشار الأسد إلى سلطنة عمان بدعوة من ملك هذا البلد.
اضطرت وزارة الخزانة الأمريكية إلى تعليق الحظر المفروض على المعاملات الاقتصادية والتجارية ضد سوريا لمدة ستة أشهر. قبل أربع سنوات، أعيد فتح معبر نصيب الحدودي بين سوريا والأردن، وهو أكثر المعابر العربية نشاطًا للبضائع والمنتجات بين سوريا والخليج الفارسي.
کما التقى مسؤولون عسكريون أمنيون أتراك بمسؤولين عسكريين وأمنيين سوريين في موسكو، وأعلن "سامح شكري"، وزير خارجية مصر، رغبة الدول العربية في لعب دور في "السلسلة الجيوسياسية للمنطقة العربية المتمركزة حول سوريا"، وبعد زيارة الوفود البرلمانية العربية إلى دمشق، تحدثت وسائل إعلام مختلفة عن بداية إعادة الإعمار الاقتصادي لسوريا.
طبعاً، نحن نعلم أن نفس الكراهية العربية ضد سوريا ونظامها السياسي ما زالت قائمةً، ومن المستبعد جداً أن تؤدي الزيارات العربية إلى إجراءات حقيقية فعالة. لأنه في الأساس، حتى لو تجاهلنا عمق عداوتهم، فإن طبيعة الدول التي يُتوقع أن تشارك في إعادة إعمار سوريا، ليست استثمارًا في مشاريع طويلة الأمد.
هذه الزيارات لها تأثيرات مهمة على سورية حكومةً وشعباً طبعاً، لكن هناك حقائق جوهرية أكثر في هذا الصدد أشارت إليها بعض وسائل الإعلام، بما في ذلك مجلة "الإيكونوميست"، الأسبوع الماضي.
الحقيقة هي أن اصطفاف الدول العربية وتركيا لإعادة العلاقات السياسية مع سوريا، ينذر بتغيير جوهري. وما نعنيه بهذا التغيير ليس تغييراً في وضع العلاقات العربية السورية، بل تغييرا في الوضع العام دفع الدول العربية إلى دمشق في عجلة من أمرها.
في الواقع، في البيئة المتغيرة للنظام الدولي، فإن تحرك إيران وروسيا نحو علاقات استراتيجية بينهما من جهة، وتحرك إيران والصين لتحقيق علاقات استراتيجية من جهة أخرى، يغير مركز الثقل في العلاقات الدولية وخاصةً العلاقات الآسيوية في مختلف المجالات، وهذا ينطوي على مخاطر لتلك الدول العربية التي لا تزال تقف في المعسکر الغربي.
وبناءً على ذلك، تتجه الدول العربية، وهي تحاول زيادة العلاقات مع الصين وروسيا، نحو تقليص الخلافات مع إيران وسوريا. وحسب رأيها، فإن العلاقات البينية الآسيوية ستبدأ من الآن فصاعدًا في النادي المكون من القوى المعارضة للغرب في آسيا.