الوقت- شهدت عدّة مدن فرنسية، اليوم السبت، تظاهرات وإضرابات جديدة لشرائح واسعة، رفضاً لإصلاح نظام التقاعد، كما أعلنت النقابات عزمها مواصلة الضغط على حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون، من خلال الدعوة إلى تنظيم المزيد من الاحتجاجات وتعزيز زخمها، السبت المقبل. وأُلغيت خدمات للسكك الحديدية، وتعطلت المدارس، كما توقف شحن المنتجات النفطية من المصافي، مع انسحاب العمال في قطاعات عديدة، استجابةً للنقابات التي دعت المواطنين مرة أخرى إلى النزول للشوارع بأعداد كبيرة.
وأظهرت أرقام المشاركين في التجمعات، والتي جرت صباحاً في مختلف مدن البلاد، مشاركةً أقل من الأسبوع الماضي، وذلك حسب إعلان وزارة الداخلية الفرنسية، أن عدد المحتجين ناهز 757 ألفاً في جميع أنحاء فرنسا، فيما أكدّ "الاتحاد العام للعمل" (سي جي تي) اليساري أن عدد المشاركين "قارب المليونين". ودعا الأمين العام للاتحاد العام للعمل، فيليب مارتينيز، إلى إضرابات أكثر شدّة، ومشاركة أكبر وأوسع، بينما أقرّ زعيم "الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل" (سي إف دي تي)، لوران بيرجيه، بتراجع التعبئة، مرجعاً ذلك إلى الإجازات المدرسية في جزء من البلاد.
وأضاف بيرجيه إنّ "رسالة الليلة ستكون الدعوة للتظاهر بكثافة السبت"، إضافةً إلى إبقاء الضغط على الحكومة والبرلمانيين، الذين يناقشون هذا المشروع المهم بالنسبة للرئيس ماكرون. وتأمل النقابات في حشدٍ أكبر السبت، داعيةً إلى مشاركة من لم يتمكنوا من التظاهر خلال أيام الاحتجاج السابقة في وسط الأسبوع. وشارك في يومي التعبئة الأولين، في 19 و31 كانون الثاني/يناير، أكثر من مليون متظاهر وفق الشرطة، وأكثر من مليونين وفق النقابات، رفضاً للمشروع الذي يُقَابل بشجب شعبي واسع، حسب ما تظهر استطلاعات الرأي، والذي ينصّ على رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً، في بلد يناهز عدد سكانه 67 مليون نسمة.
وتعطلت حركة القطارات والمترو إلى حد كبير، أما في مجال الطاقة، فأكّدت نقابة "سي جي تي" حدوثَ انخفاضٍ بنحو 4500 ميغاوات في الإنتاج، أي ما يزيد على طاقة إنتاج أربعة مفاعلات نووية. وأضرب ما نسبته 56% من الموظفين، أثناء نوبات العمل الصباحية في مصافي "توتال إنرجي" حسب الشركة، وأكثر من 75% من الموظفين وفق "سي جي تي". ونشرت السلطات عشرة آلاف عنصر بين شرطيين ودركيين، بينهم 4500 في العاصمة حيث سجلت حوادث عصرا، بينها إحراق سيارة. وتم توقيف عشرة أشخاص في باريس، وفق الشرطة، كما تم نقل دركي إلى المستشفى لتلقي العلاج بعد تعرضه لإصابة في العين من جراء رشق مقذوفات.
وكتب على لافتة كبرى رفعت خلال تظاهرة باريسية "لن نموت في العمل"، في شعار يبدو أنه يعكس ذهنية المتظاهرين الرافضين للتدبير الجوهري في مشروع ماكرون تعديل نظام التقاعد والذي ينص على تأخير سن التقاعد من 62 إلى 64 عاما. وقبل انطلاق التظاهرة الباريسية أكد قادة الاتحاد النقابي الدعوة إلى يومي تعبئة إضافيين في 16 شباط/فبراير و7 آذار/مارس، معربين عن استعدادهم لـ"تشديد التحرك" و"شل البلاد" إذا ما بقيت الأمور على حالها. وقال لوران بيرجيه رئيس النقابة الإصلاحية "الكونفدرالية الفرنسية الديمقراطية للعمل" (سي إف دي تي) إن "تجاوز عدد المشاركين المليون سيشكل ذلك نجاحا كبيرا". وذكر مصدر في الشرطة أنه يتوقع مشاركة بين 600 ألف و800 ألف شخص في المظاهرات بينهم تسعون ألفا إلى 120 ألفا في باريس.
ودعت الاتحادات العمالية الرئيسية الحكومة في بيان مشترك إلى سحب مشروع القانون. وحذّرت من أنها ستسعى إلى شلّ الحياة في فرنسا اعتباراً من السابع من مارس/آذار في حالة عدم تلبية مطالبها. ومن المقرر تنظيم إضراب يوم 16 فبراير/شباط. وأضافت: "إذا ظلّت الحكومة مغمضة العينين فإن مجموعة النقابات ستدعو إلى إغلاق فرنسا". وستكون احتجاجات اليوم السبت هي الأولى التي تخرج في عطلة نهاية الأسبوع دون أن يحتاج الموظفون للإضراب عن العمل أو الحصول على إجازة للمشاركة. كما تأتي بعد الأسبوع الأول من النقاش حول قانون التقاعد في البرلمان. واقترحت المعارضة آلاف التعديلات لتعقيد المناقشة وإجبار الحكومة في نهاية المطاف على تمرير مشروع القانون دون تصويت برلماني ومن خلال مرسوم، وهي خطوة قد تفسد ما تبقى من ولاية ماكرون.
ومن شأن رفع سن التقاعد عامين وتمديد فترة سداد الموظفين للمساهمات أن يدر 17.7 مليار يورو (19.18 مليار دولار) من المساهمات التقاعدية سنوياً ما يسمح للنظام بالتوازن بحلول عام 2027، وفقا لتقديرات وزارة العمل. وتقول النقابات إن لتحقيق ذلك طرقاً أخرى مثل فرض ضرائب على فاحشي الثراء أو مطالبة أصحاب العمل أو المتقاعدين ميسوري الحال بتقديم مساهمات أكبر.
معركة في البرلمان الفرنسي
في الجمعية الوطنية، حيث لا تملك الحكومة الغالبية المطلقة، بدأت مناقشة مشروع تعديل نظام التقاعد، أمس الاثنين، في ظل فوضى كبيرة، إذ إنّ معارضي المشروع ينوون اعتماد نهج التعطيل البرلماني. ودعا الوزير غابريال أتال، إلى "إصلاح أو إفلاس" نظام التقاعد، مخاطباً معارضي المشروع: "إما الاختيار بين المصلحة العامة أو المصلحة الانتخابية". واختارت الحكومة الفرنسية تمديد سنوات العمل، لمعالجة التراجع المالي في صناديق التقاعد وتشيّخ السكان، وتدافع عن مشروعها معتبرةً أنه "يُحدث تقدماً اجتماعياً"، من خلال تحسين معاشات التقاعد المتدنية.
ويضع الرئيس الفرنسي جزءاً كبيراً من رصيده السياسي على المحك في هذه المواجهة، التي تسلط الضوء أيضاً على هشاشة غالبيته النسبية في البرلمان، ولتمرير التعديل، يجب على الائتلاف الحاكم تأمين دعم من نواب حزب "الجمهوريين" اليميني. وفي هذا السياق، تستمر شعبية الرئيس ورئيسة وزرائه، إليزابيت بورن، في الانخفاض، فوفق استطلاع أجرته مؤسسة "إيفوب فيدوسيال"، لحساب إذاعة الجنوب ومجلة "باري ماتش"، خسر الرئيس نقطتين في شعبيته، وناهزت نسبة تأييده 34%، وهو أدنى مستوى وصلته منذ آذار/مارس 2020.
إصرار الحكومة
وعلى الرغم من الاحتجاجات الحاشدة، فإن الحكومة ما زالت مصممة على إقرار مشروع التقاعد الجديد، إذ اعتبر ماكرون مساء أول أمس الاثنين أن الإصلاح "ضروري"، بعدما أكدت رئيسة الحكومة إليزابيث بورن أن رفع سن التقاعد "غير قابل للتفاوض". وقالت بورن في تغريدة إن "إصلاح نظام التقاعد يثير تساؤلات وشكوكا. نحن نستمع إليها. النقاش البرلماني مفتوح. وهو سيتيح، بشفافية، إثراء مشروعنا بهدف ضمان مستقبل نظامنا عبر المشاركة. إنّها مسؤوليتنا!" وفي الوقت ذاته، يخضع مشروع الإصلاح للتدقيق في اللجنة البرلمانية المعنية، وسيتم عرضه على الجلسة العامة للبرلمان الأسبوع المقبل. ويأمل ماكرون نيل المشروع الأغلبية في البرلمان بدعم من المحافظين، إلا أن بعضهم أبدى تحفظات على خطط الإصلاح.
أرقام مقلقة
ونقلت صحيفة "لي زيكو" الفرنسية هذا الأسبوع عن المرصد الفرنسي للظروف الاقتصادية قوله إن تراجع القدرة الشرائية للمواطن الفرنسي ستستمر العام المقبل أيضا. وحسب المرصد، فإن ارتفاع المداخيل خلال النصف الثاني من هذا العام لا يمكن أن يسد الثغرات التي تسببت فيها الخسارات المسجلة خلال الشهور الأولى من عام 2022. واعترف المرصد بأن الوضع سيزداد سوءا خلال عام 2023، وتوقع تقلصا للقدرة الشرائية بنسبة 0.3%. . ونقلت الصحيفة عن ماثيو بلان، الباحث الاقتصادي في المرصد، قوله إن الأرقام حول الوضعية الاقتصادية عام 2023 تشير إلى أن البطالة سترتفع بنسبة 8%، وسيضيع نحو 175 ألف وظيفة، ما سيؤثر حتما على منظومة الأجور. وفي المقابل، تؤكد الحكومة -من جهتها- أنها ستخلق 100 ألف منصب شغل جديد العام القادم. كما توقع المرصد الفرنسي ارتفاع نسبة التضخم بنحو 4.2%، وتراجع نسبة الاستهلاك بسبب المشاكل الاقتصادية التي أثرت على الأجور.