الوقت- رغم مرور أسابيع قليلة على توقيع اتفاقية الحدود البحرية بين الحكومة اللبنانية والنظام الصهيوني بوساطة أمريكية ولم تجف تواقيع الأطراف على الورق، إلا أن التطورات السياسية في الأراضي المحتلة وانتصار جبهة من أشد المعارضين لقبول هذا الاتفاق وعلى رأسهم "بنيامين نتنياهو" في الانتخابات النيابية للنظام بعث بعض الشكوك حول إمكانية بقاء الاتفاق. وعلى الرغم من أن نتنياهو لم يتخذ موقفا جديدا من الاتفاق مع لبنان منذ إعلان النتائج، فقد وصف الاتفاق في السابق بأنه "اتفاق استسلام". وقال نتنياهو: "لبيد يخضع بإذلال لحسن نصر الله". وأضاف "سيفعل ذلك (توقيع الاتفاق) دون استفتاء او مناقشة في الكنيست". وأعرب نتنياهو أنه "دون إجراء استفتاء وطني، فإننا لا نعتبره ملزمًا". لكن على الرغم من هذا الخلاف المستمر، من خلال فحص أبعاد وزوايا أهمية الحفاظ على هذا الاتفاق لأمن الكيان الصهيوني، واستقرار حكومة نتنياهو الجديدة المحتملة، وكذلك القضايا المحيطة المتعلقة بالاتفاق، فعلى ما يبدو، أن تفاخر نتنياهو لن ينفذ عمليا.
خلوات نتنياهو التاريخية
خلال السنوات التي قضاها في السلطة، اضطر نتنياهو إلى ابتلاع العديد من الحبوب السامة في شكل اتفاقيات ورثها عن القادة السابقين. ويمكن ملاحظة ذلك في حالة اتفاقات أوسلو عام 1993. وكان قد ادعى حينها أنه سيفككها بعد توليه منصبه عام 1996، لكنه لم يكتف بإلغائها، بل وافق على اتفاقيات إعادة إنشاء السلطة الفلسطينية على مستوطنة الخليل الفلسطينية، والتي اعتبرها اليهود مدينة، الآباء في كتبهم المقدسة. كما وقع اتفاقيات نهر واي لعام 1998 مع ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وظل ملتزماً بمعاهدة السلام لعام 1994 مع الأردن التي وقعها إسحق رابين. حتى أن نتنياهو التزم على مضض بالانسحاب الإسرائيلي عام 2005 من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، والذي نفذه رئيس الوزراء أرييل شارون قبل عودة نتنياهو إلى السلطة في عام 2009. ويأتي تاريخ الانسحابات هذه في حين أن قضية الحدود مع لبنان بها الكثير من التعقيدات والصعوبات للمخاطرة بإلغائها.
سيف المقاومة على رقبة الصهاينة
بادئ ذي بدء، تثير حجج نتنياهو ضد اتفاق حكومة لابيد مع لبنان السؤال: هل سيكون للحكومة الصهيونية الجديدة سلطة أكبر من الحكومة السابقة لترهيب وصد المقاومة التي يمكن لنتنياهو أن يأمل فيها؟
في الواقع، في الحكومة الصهيونية السابقة، استخدمت حكومة لبيد كل الأدوات العسكرية والعناصر الخفية لسلطة النظام لإجبار المقاومة على تقويض حقوق لبنان البحرية، وحتى التهديدات العسكرية كانت دائمًا على لسان قادة تل أبيب، لكن حزب الله جاد ولم يترك التصميم على الحفاظ على المصالح البحرية للبنان واعتماد التشكيل الحربي والتهديدات مثل إرسال طائرات دون طيار على المعدات البحرية الصهيونية أي خيار أمام حكومة لابيد سوى قبول مطالب المقاومة. والآن حذر السيد حسن نصرالله بتشجيع واتخذ موقفا متشددا تجاه الصهاينة، وقال إن المقاومة لديها خطة لهذه المرحلة أيضا.
وفي هذا الصدد، أعلن السيد حسن نصر الله، الليلة الماضية، أنه "لا توجد بوادر على انسحاب النظام الصهيوني من اتفاقية ترسيم الحدود البحرية"، مشددًا في الوقت نفسه على أن قوة لبنان وعناصر القوة التي يمتلكها هم الضامنون لاستمرار اتفاقية ترسيم الحدود البحرية. كما قال إنه لا يمكن الاعتماد على الضمانات الأمريكية للحفاظ على هذه الاتفاقية. بعبارة أخرى، ينبغي القول إن نتنياهو يعرف بوضوح أن هذا الاتفاق هو السبيل الوحيد لإسرائيل لاستغلال موارد الطاقة الموجودة في جوف مياه المنطقة وضمان أمن استثمارات ومؤسسات النظام السابقة. وهو يدرك أن إلغاءها سيضر بالأمن القومي للنظام ومصالحه الاقتصادية ومستقبل التنقيب عن الغاز في البحر المتوسط ومصداقيته.
الأزمة الداخلية في الأراضي المحتلة
من ناحية أخرى، فإن أحد أكبر قيود نتنياهو هو القضايا الداخلية للنظام، أي الأزمة التي هزت أسسها الأمنية هذه الأيام مع صعود الانتفاضة الفلسطينية المسلحة. ومن المؤكد أن شركاء نتنياهو الراديكاليين، بن غوير وسموتريتش، لن يقدموا أي تنازلات بشأن الاضطرابات الداخلية. ولقد نفذ الفلسطينيون في الأشهر الأخيرة عشرات العمليات الناجحة ضد جنود ومستوطنين إرهابيين إسرائيليين في الضفة الغربية وداخل الأراضي المحتلة.
لذلك، فإن الوضع الداخلي الملتهب في الوقت الراهن وإمكانية تصعيده في الأسابيع والأشهر المقبلة سيخفف من المغامرة الخارجية لنتنياهو، الذي حصل على فرصة ذهبية لتشكيل حكومة غير ائتلافية مع المعتدلين ولا يريد أن يخسر هذه الفرصة بأي شكل من الأشكال. وفي هذا السياق، حتى القادة الصهاينة، مثل رئيس هذا النظام، لم يعتبروا وصول نتنياهو يعني نهاية عدم الاستقرار في الحكومة، وهم يتحدثون عن اشتداد الخلافات والمشاكل الداخلية في العصر الجديد.
حاجة أمريكا للاتفاق
نتنياهو يدرك أيضًا رد الفعل العكسي المحتمل من واشنطن إذا أضر بالصفقة التي عملت إدارة بايدن جاهدة للتوسط فيها ومن المرجح أن ينتقد الاتفاقية ويتخذ موقفا من تعديلها وليس إلغاءها. وعلى الرغم من أن الحكومات الأمريكية لطالما اعتبرت مصالح النظام بمثابة خط أحمر في سياساتها الإقليمية، وتستر على ارتداد الصهاينة وتبررها في التزاماتها فيما يتعلق بالمستوطنات وأي اتفاق آخر، فإن البيت الأبيض يدرك تمامًا موقف النظام من إلغاء الاتفاقية.
وفي هذا الصدد، اعتبر السيد حسن نصرالله في خطابه الأخير الحفاظ على وجود النظام الصهيوني أحد الأهداف الرئيسية لجميع رجال الدولة الأمريكيين وأضاف: "أهداف ومبادئ جميع الحكومات الأمريكية واحدة وهي متباينة. فقط تختلف في التكتيكات والأساليب. والطرف الأول الذي تولى مسؤولية دعم بقاء النظام الصهيوني في منطقتنا هو الولايات المتحدة. وتتحمل الولايات المتحدة الأمريكية المسؤولية عن كل اعتداءات الكيان الصهيوني على الفلسطينيين".
كما تحمل الحكومة اللبنانية الولايات المتحدة المسؤولية، حيث قال إلياس بوساب المفاوض اللبناني ونائب رئيس مجلس النواب: "تلقينا ضمانات أمريكية كافية بعدم إلغاء هذا الاتفاق بسهولة". وأشار بو صعب إلى أن إسرائيل ولبنان وقعا اتفاقيات منفصلة مع الولايات المتحدة، وقال لفرانس برس إنه إذا أراد نتنياهو الانسحاب من الاتفاق "فإنه سينسحب من الاتفاق مع الولايات المتحدة". إضافة إلى المخاوف الأمنية للنظام ومسألة الهيبة للولايات المتحدة، أظهر بايدن أنه يعتمد على نتائج هذه الاتفاقية لتخفيف عبء مشاكل الطاقة في أوروبا في خضم العقوبات الروسية، وبالتالي إلغاء الاتفاق يعني برودة العلاقة بين تل أبيب وواشنطن في عهد نتنياهو.