الوقت - قبل عدة أشهر، تعهدت الآلية الثلاثية (الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية لتنمية شرق إفريقيا) بالتوسط بين الجيش والأحزاب السياسية في السودان لإنهاء الأزمة السياسية في هذا البلد. ومارست هذه الآلية ضغوطاً كبيرة لإجراء محادثات مباشرة بين السياسيين المدنيين والعسكريين، لكن تيارات سياسية مهمة مثل تحالف الحرية والتغيير وحزب الأمة رفضت الجلوس حول طاولة واحدة مع العسكريين.
ورغم عقد عدة اجتماعات للمباحثات غير المباشرة بين السياسيين المدنيين والعسكريين، إلا أن معارضة للجيش كانت شديدة لدرجة أن جهود الآلية الثلاثية ظلت غير مثمرة وانسحبت الهيئة الحكومية لتنمية شرق إفريقيا من هذه الآلية.
وقبل تهميش الآلية الثلاثية، تعهدت أمريكا والسعودية بالتوسط بين تحالف الحرية والتغيير والجيش السوداني. ودخل هذا التحالف، بصفته ممثلاً للمعارضة، في حوار مع الجيش وتوصل إلى اتفاق أيضاً. لكن هذه المباحثات لاقت معارضة من قبل بعض الأحزاب السياسية السودانية.
وفي ظل هذا الوضع نظم السودانيون مظاهرة حاشدة ضد الجيش في الخرطوم الخميس الماضي. ولقي 9 أشخاص مصرعهم وأصيب أكثر من 600 شخص آخرين خلال قمع الاحتجاجات.
وفي تعليقه على قمع التظاهرات المذكورة، اتهم تحالف الحرية والتغيير الجيش الحاكم للسودان بضرب العملية السياسية في هذا البلد وأعلن ان قمع المتظاهرين يظهر عدم الجدية والإرادة السياسية للعسكريين لإنهاء الأزمة السياسية في البلاد.
وإثر موقف تحالف الحرية والتغيير هذا واتفاق القوى المدنية على تشكيل حكومة تنفيذية، أقال رئيس المجلس الحاكم في السودان 5 أعضاء مدنيين من هذا المجلس من مناصبهم يوم الاثنين الماضي وقال: بعد تشكيل "حكومة مدنية" سيحل المجلس السيادي وينشأ مجلس عسكري أعلى مهمته الدفاع عن السودان والحفاظ على أمن البلاد.
ووصف تحالف الحرية والتغيير خطاب الجنرال البرهان الأخير بأنه مناورة واضحة وتراجع وتكتيك وقال، يبدو أن زعيم الانقلاب يقبل عودة الجيش إلى الثكنات، لكنه يتجاهل ذلك عمليا.
وحسب صحيفة "سودان تربيون"، فقد عقد أحد قادة تحالف الحرية والتغيير مؤتمرا صحفيا وقال: ان البرهان يعلم أن السياسيين المدنيين يختلفون فيما بينهم بشأن إجراء انتخابات مبكرة وأن هذه الانتخابات لن تقام في ظل النظام الاستبدادي، ووجود القوة السياسية لعناصر النظام السابق ووجود العديد من الجماعات المسلحة في البلاد.
ووصف "عمر دقير" الانقلاب العسكري على الحكومة الانتقالية بالخرطوم في (نوفمبر) الماضي بأنه المشكلة الرئيسية للأزمة وقال: إن الجنرال البرهان تجاهل حقيقة أزمة البلاد بالقرارات التي أعلنها. على أي حال ، تفوح رائحة الوصاية على إرادة الشعب لتحديد هيكل المؤسسات الحكومية.
وسبق أن قال "ياسر عرمان" نائب الأمين العام لحركة تحرير السودان - فرع الشمال: إن البرهان بعث برسالة إلى الآلية الثلاثية والمؤسسات الدولية الأخرى، وفي تلك الرسالة حدد مهام المجلس العسكري الأعلى والتي تشمل السيادة والسياسة الخارجية والبنك المركزي.
وعن إنشاء المجلس العسكري الأعلى قال "ياسر عرمان": لن نقبل أبداً بمجلس ذي سلطة سيادية وله سيطرة كاملة على الجيش والنيابة والقضاء.
ونشرت لجان المقاومة التي تتولى تنظيم التظاهرات ضد الحكام العسكريين في السودان، بيانا أدانت فيه قرارات وخطاب البرهان الأخير وقالت: يجب محاكمة قائد الجيش ورئيس المجلس السيادي في السودان على الجرائم التي ارتكبت، ومعاقبتهم على أفعالهم.
وقالت "لجان المقاومة السودانية"، إن أمام قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، ومن خلفه من الانقلابيين، طريقاً واحداً، نحو المشانق والمقاصل، للجرائم التي ارتكبوها في حق الشعب السوداني.
وأضافت اللجان في بيان لها بعد ساعات من خطاب البرهان للشعب السوداني، يوم الاثنين، والذي أعلن فيه نية القوات المسلحة تسليم السلطة للمدنيين بعد توافقهم على حكومة مدنية وتشكيل مجلس للأمن والدفاع، إن الطريق أمام البرهان ومن خلفه من الانقلابيين "واضح ليس لمجلس أمن ودفاع أو أي محاولة أخرى لإعادة التموضع في مستقبل الدولة السودانية، وإنما نحو المشانق والمقاصل على الجرائم التي ارتكبتموها في حق هذا الشعب العظيم".
وبدأت لجان المقاومة منذ بداية الأسبوع الماضي إضرابًا في ثلاث مناطق مهمة وحيوية بالخرطوم، وأعلنت لجان المقاومة بمدينة "ود مدني" القريبة من الخرطوم: سيقام إضراب في هذه المدينة من أجل زيادة الضغط على الحكام العسكريين.
وأعلنت مجموعة الوفاق الوطني التي انفصلت عن ائتلاف الحرية والتغيير عام 2021 ودعمت سياسات الجيش، ردا على خطاب البرهان الأخير: هذه القرارات لها نقاط إيجابية ونقاط غامضة ومعقدة يجب توضيحها.
وقال مبارك أردول، الأمين العام لقوى التوافق الوطني في تصريحات صحفية مقتضبة عقب اجتماع قيادة التوافق الوطني صباح الثلاثاء في الخرطوم إن الاجتماع أكد ضرورة الالتزام باتفاقية جوبا واستكمالها. ودعا القوى السياسية للانخراط في الحوار وتشكيل حكومة توافقية تعود بالعملية الديمقراطية إلى مسارها الصحيح.
وقال إن قوى التوافق الوطني ستدخل للحوار بعقل مفتوح من أجل حل الأزمة مشدداً على ضرورة تنقية الأجواء من خطاب الكراهية والدخول إلى مرحلة جديدة.
وأكدت قوى التوافق الوطني دعمها للحوار الذي ترعاه الآلية الثلاثية داعية لحوار شامل بمشاركة جميع القوى السياسية ما عدا المؤتمر الوطني.
وعقب خطاب البرهان الأخير، نزل المئات من مواطني الخرطوم إلى الشوارع وأحرقوا الإطارات ورددوا هتافات تطالب بإزاحة الجيش من السلطة.
وحسب وسائل الإعلام السودانية، فإن هذه الاحتجاجات تظهر أن أهل السودان لا يثقون بكلمات ووعود قائد الجيش ورئيس المجلس الحاكم في هذا البلد.
وتعليقاً على التطورات في السودان، أعرب الأمين العام للأمم المتحدة عن أمله في أنه مع انسحاب الجيش من عملية المحادثات السياسية، ستتاح فرصة للسودانيين للتوصل إلى اتفاق يؤدي في نهاية المطاف إلى إقامة هيكل ديمقراطي في هذا البلد.
وقال الناطق باسم الأمين العام للأمم المتحدة في مؤتمر صحفي: نطالب الآلية الثلاثية بمواصلة عملية الحوارات السياسية ويمكن للسودانيين أن يتوصلوا إلى اتفاق بشأن نقل الهيكل الديمقراطي في بلادهم.
كما أصدرت الخارجية الأمريكية بيانا طالبت فيه السودانيين بإيجاد حل للأزمة السياسية في بلادهم ومن خلال الحوار يتجه السودان نحو إجراء انتخابات حرة وشفافة وديمقراطية إلى جانب إقامة حكومة مدنية.
ويعتقد الخبراء في تطورات السودان، أنه رغم تأييد الأمين العام للأمم المتحدة والولايات المتحدة، وربما بعض المنظمات والمؤسسات الإقليمية والدولية، إلى جانب عدد من دول العالم، انسحاب الجيش في الشأن السياسي، لكن يبدو أن الجيش سيبقى أحد الفاعلين الرئيسيين في المشهد السوداني، ورغم أن الجيش قد يهيئ الظروف لساسة مدنيين للمشاركة في لعبة القوة، لكن القرارات المهمة ستكون من مسؤولية الجيش السوداني. على أي حال، علينا أن ننتظر ونرى المصير الذي سيحدده الفاعلون في تطورات السودان لهذا البلد.