الوقت_ من المعروف أنّ ملف إدخال المغرب في حظيرة التطبيع الأمريكيّة مقابل الادعاء الأمريكيّ بسيادة الرباط على الإقليم الصحراويّ التابع لجبهة "البوليساريو"، قد وتّر العلاقات المغربيّة الإسبانيّة بشكل كبير، لأنّ مدريد تعتبر ذلك تقويضاً للنفوذ الذي تحتفظ به إسبانيا وفرنسا على المنطقة المغاربيّة، ويعزز دور إدارة بايدن في المنطقة والموقف المغربيّ في التنافس الذي يحافظ عليه مع الاتحاد الأوروبيّ لاستغلال مياه الصحراء الغربيّة التي تُعد منطقة غنيّة بالمعادن مثل التيلوريوم أو الكوبالت أو الرصاص، ومؤخراً اقدمت الحكومة الإسبانية، على إرسال كاسحتي ألغام بحريّتين، “تامبري” و “دويرو”، إلى مياه مليلية المحتلة، وعلى مقربة من مدينة بني انصار المغربية، في مناورة و استعراض البحريّ، ذي علاقة وطيدة مع مجمل الاحداث التي وترت العلاقات بين البلدين، حيث تسعى الأجندة المغربيّة لتوسيع النفوذ على المدينتين المتمتعتين بالحكم الذاتيّ، حتى الوصول إلى ضمها الكامل، وهو خطاب ثابت في التصريحات المغربيّة.
توتر متصاعد
في ظل القلق الإسبانيّ العارم إزاء قضية "التوسع الإقليميّ للمغرب"، والرغبة الإسبانيّة بتحويل مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين إلى منطقتين عسكريتين، من أجل مواجهة "طموحات المغرب"، إضافة إلى مسلسل الاحداث التي تم تسجيلها منذ بداية وصول آلاف المهاجرين المغاربة إلى شاطىء سبتة بسبب قبول مدريد، دخول زعيم جبهة البوليساريو، إبراهيم غالي، للعلاج دون علم المغرب، وإرسال إسبانيا زورق " ميداس" إلى الجزر الجعفريّة (ثلاث جزر صغيرة تحت سيطرة إسبانيا على بعد 48 كم شرق مدينة مليلة وعلى بعد 3.5 كم من مدينة رأس الماء المغربية، وتحتلها مند عام 1847)، كدعم بحري لاحتواء وصول المهاجرين إلى سبتة، يمارس المغرب أسلوب الندية، بعد أن تحول إلى بلد قويّ سياسيا، و اقتصاديّ بدل أن يشغل مهمة الحارس للاتحاد الأوروبيّ.
وفي الوقت الذي خلف فيه الهجوم الأخير على السياج الفاصل بين مليلية المحتلة و المغرب، من طرف مهاجرين منحدرين من شمال افريقيا، ارتباكا لدى الجانب الاسبانيّ، تشتد الأطماع الاستعماريّة لإسبانيا على القارة السمراء بصفة عامة وعلى جزئها الشمالي على وجه الخصوص، حيث إنّ قيمة الجزر الواقعة بمحاذاة الضفة المتوسطية الواقعة بين السعيدية حتى طنجة والتي أدت أدوارا بارزة ومحوريّة في كل السياسات العسكريّة لمدريد التي عملت على حشد جيوشها وقوتها واضعة نصب أعينها أن أي تقدم في مخطط الاستيلاء على شمال المغرب لن يتحقق إلا عبر التحكم في تلك الجزر الاستراتيجيّة القريبة من الشاطئ، حيث تمثل ما تُعرف بـ "الجزر الجعفرية" المقابلة لمنطقة رأس الماء واحدة من المواقع ذات الأهمية الكبيرة في أجندة الوجود العسكريّ للإسبان طيلة الحقب الماضية ولا زالت الحكومة الإسبانيّة توليها قيمة بالغة إلى جانب باقي الجيوب المحتلة كسبتة ومليلية وجزيرة النكور وباديس وليلى.
وبما أنّ المغرب لا يعترف بسيادة إسبانيا على مياه مليلية أو الجزر الجعفريّة، أو غيرها من الصخور المجاورة، شرعت شركة "ميديترينيان" المرخصة من طرف الحكومة المغربية قبل مدّة، بوضع عوامات مزرعة لتربية الاسماك على بعد 700 متر سواحل الجزر الجعفريّة، كما عملت الشركة على تركيب أولى العوامات بتلك النقط في الأيام القليلة الماضيّة، ما جعل عدد المزرعات يصل الى 16 مزرعة، وهذا بالطبع دفع إسبانيا لشكوى دبلوماسيّة حول تلك القضيّة.
دليل آخر على التوتر المتصاعد بين البلدين، هو اعتذار وزيرا خارجية المغرب، ناصر بوريطة، والجزائر، رمطان لعمامرة، عن حضورهما في منتدى الاتحاد من أجل المتوسط في اللحظة الأخيرة قبيل انعقاده في برشلونة، والذي يضم 27 دولة من دول الاتحاد الأوروبيّ بالإضافة إلى 15 دولة ساحليّة تتشارك ساحل المتوسط، ما يعني أنّ غياب بوريطة، أحبط ما كان من المقرر أن يكون أول مقابلة مباشرة بينه وبين وزير خارجية إسبانيا، منذ اندلاع الأزمة الدبلوماسيّة في أيار/ مايو المنصرم، والتي دفعت الرباط لاستدعاء سفيرتها في مدريد، كريمة بنيعيش، للتشاور.
ملف شائك
لم يخفِ المغرب أبداً طرح ملف سبتة ومليلية المحتلتين من إسبانيا بعد ما أسماه "حل نزاع الصحراء الغربيّة" الذي يحظى بالأولوية بالنسبة لبلاده، في ظل مساعي الحكومة الإسبانيّة لتحويل سبتة ومليلية المُحتلتين إلى قلعتين عسكريتين حفاظاً على ما يسمونه "الأمن القومي الإسبانيّ"، ما يشي بتأزم أكبر ستشهده العلاقة بين البلدين في الأيام القادمة.
وإنّ ما يؤرق إسبانيا في حقيقة الأمر هو المنافع الاقتصاديّة التي سيجنيها المغرب من اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء، كما أنّ المشروع العملاق لإنشاء خط أنابيب غاز يربط نيجيريا بالمغرب وأوروبا، لابد أن يمر عبر الصحراء الغربيّة التي يسيطر المغرب على حوالي 80% من أراضيها عقب انسحاب موريتانيا من الصحراء الغربية عام 1979، والتي تبلغ مساحتها 266 ألف كيلومتر مربع.
ويعتقد الإسبان أنّ خطط المغرب لإعادة التسلح إلى جانب اعتراف أمريكا بمغربية الصحراء "يمثل تحدياً لوحدة الأراضي الإسبانيّة وللمصالح الاقتصادية الأوروبيّة"، فيما تسعى إسبانيا بقوّة لمنع المغرب من السيطرة على كامل الإقليم الصحراويّ بعد التطبيع مع الصهاينة والحصول على الضوء الأخضر الأمريكيّ، حيث يشهد الإقليم الصحراويّ نزاعاً بين المغرب وجبهة البوليساريو منذ العام 1975، وذلك بعد انتهاء فترة وجود الاحتلال الإسبانيّ في المنطقة، ليتحول إلى مواجهة مسلحة بين الجانبين، توقفت عام 1991 واستمرت لمدة 16 عاماً، بتوقيع اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية الأمم المتحدة، وتطالب الجبهة باستفتاء عادل يقرر مصيرهم وتعتبره السيناريو الأمثل لحل الأزمة التاريخيّة.
أيضاً، تشهد العلاقات بين البلدين تأزماً غير مسبوق، منذ استقبال اسبانيا لزعيم جبهة "البوليساريو" إبراهيم غالي، حيث قالت وزارة الخارجية المغربيّة في بيان شديد اللهجة حينها، أنّ قرار السلطات الإسبانيّة بعدم إبلاغ الرباط بقدوم زعيم جبهة البوليساريو هو "فعل يقوم على سبق الإصرار وليس مجرد إغفال بسيط، وهو قرار سياديّ وخيار إراديّ لمدريد، متحدثةً أنّ المغرب أخذ علماً كاملاً به وسيستخلص منه كل التبعات، وذلك في ظل توجس إسبانيّ من التطور العسكريّ المغربيّ والديناميكيّة الإيجابيّة التي شهدها ملف الإقليم الصحراويّ بعد اعتراف واشنطن غير الشرعيّ بسيادة الرباط على الأراضي التي تحتلها هناك.
ومن الجدير بالذكر أنّ قضية استقبال إسبانيا لإبراهيم غالي على أراضيها أثار غضب المغرب بشكل كبير، لأنّ سلطات البلاد تخوض نزاعاً مع "جبهة البوليساريو" على الإقليم الصحراويّ، وتحاول الرباط بكل ما أوتيت من قوة تطبيق مبادرة الحكم الذاتيّ للإقليم الصحراويّ ولكن تحت سيادتها، فيما تُصر جبهة البوليساريو على رفض الخطة المغربيّة الراميّة للسيطرة على أراضيهم، وتعتبر الأمم المتحدة جبهة البوليساريو الممثل الشرعيّ الوحيد للشعب الصحراويّ، وتطالب السلطات المغربية بضرورة ترك حق تقرير المصير للصحراويين أنفسهم.
ويُظهر الإعلام الإسبانيّ بشكل جليّ، قلق حكومة البلاد من خطط الرباط المتعلقة بالتفوق العسكريّ الإقليميّ، والذي يضع ضمن أهدافه كسر النفوذ الجزائريّ في المنطقة اقتصاديّاً وعسكريّاً بالاستناد إلى دعم الولايات المتحدة والسعودية، حيث إنّ الجيش المغربيّ تطور عسكريّاً في السنوات الأخيرة بعد حصوله على موارد ماديّة مكنته من تنويع مصادر التزود بالأسلحة، بالإضافة إلى زيادة كبيرة في ترسانته الحربيّة، في ظل تحذيرات داخل إسبانيا من سباق التسلح المغربيّ، لأنّه يولد عدم استقرار إستراتيجيّ على المديين القصير والمتوسط في شمال إفريقيا، كما أنّ إحكام السيطرة على الصحراء الغربيّة يمكن أن يمثل على المدى الطويل، تحدياً لوحدة أراضي إسبانيا، ما يعني بالفعل أن العلاقات بين البلدين تتجه نحو الهاوية بشكل كبير.
في المحصلة، وبالاستناد إلى كل ما ذُكر ومع تصاعد الأزمة بين الإسبان والمغاربة، إنّ الفجوة بينهما لا يمكن ردمها بسهولة في ظل الصراع المُستميت على النفوذ، ومن غير المُستبعد أبداً تتفاقم العلاقة الدبلوماسيّة التي وصلت إلى حد القطيعة، مع كل قرار مغربيّ أو إسبانيّ، خاصة أنّ كلى البلدين لا يوفران جهداً في تأزيم العلاقات وزيادة حدة المشكلات وطرح الملفات الحساسة والعالقة دفعة واحدة، وربما تتحول الأزمة الثنائية إلى أزمة حضاريّة وثقافيّة شاملة ذات مضمون سياسيّ واقتصاديّ بحت لن يقف حده عند حدود البلدين.