الوقت- تظهر بين الحين و الأخر معاناة سكان البدون للتداول في وسائل الإعلام. و ها هي قضية البدون تعود للظهور اليوم في ظل مبادرة غير معهودة اتخذت من خلالها كل من قطر و الإمارات قراراً بتجنيس السكان "البدون" بشكل غير مسبوق و ذلك كنوع من تكريس جهودهما في فتح باب المواطنة الأمر الذي من شأنه أن يزيد التحديات السياسية أمام جارتيهما المملكة العربية السعودية التي تمتلك عدداً كبيراً من البدون. ويقطن دول الخليج الفارسي أعداداً كبيرة من السكان البدون. وهم السكان الذين لم يتمكنوا من الحصول على حق المواطنة. وخلال خطاب لأمير قطر الشيخ تميم بن حمى آل ثاني في 26 أكتوبر/تشرين الأول، صرح قائلاً إن الدولة القطرية سوف تعدل قريبا قوانين الجنسية لتشمل المقيمين عديمي الجنسية مثل أفراد قبيلة "آل مرة".وكان ذلك ردًا من الحكومة القطر على الانتقادات اللاذعة التي تعرضت لها بشأن استبعادها للسكان البدون من التصويت في الانتخابات التشريعية في أكتوبر/تشرين الأول في البلاد. ورفضت دول الخليج منح هؤلاء السكان المواطنة على مدى عقود من أجل الحفاظ على التوازنات القبلية أو الطائفية داخل حدودها، كما ظلت الحكومات المضيفة متشككة طويلًا في الولاءات الوطنية لدى البدون الذين يعيشون داخل حدودها.
من هم البدون
تعود جذور البدون في الأصل إلى قبائل بدوية عريقة عاشت في مناطق رعوية صحراوية تقع على أطراف السعودية و على تخوم الكويت و حدود العراق و أطراف الضفة الشرقية للخليج الفارسي. كما تعود أصول البعض منهم إلى البادية السوريدة و الأردن و العراق و السعودية وهم من قبائل عريقة مثل شمر و عنزة. أما تسميتهم بالبدون فهي عبارة عن اصطلاح رائج استخدم على نطاق واسع على الفئات الاجتماعية التي لم تتمكن من إثبات هويتها للدولة التي تسكن فيها و لم تتمكن من تقديم أي اثبات على حصولها على جنسية دول أخرى. و يتضمن مصطلح البدون أكثر من دلالة، فهو يرمز إلى انهدام الجنسية، كما يشير إلى من لم يتمكن من اثبات حقه في الجنسية وفقا للقوانين و الأنظمة النافذة في البلاد التي يعيش فيها.
في الدول التي تحرم مواطنيها من حق المشاركة السياسية كدول الخليج مثلاً، تكون الامتيازات التي يحصل عليها المواطنون دون غيرهم مرتبطة بحقوق الإنسان الأساسية، كالرعاية الصحية والتعليم والضمان الاجتماعي وحق التملك وحرية التنقل والعمل. هنا يجد البدون نفسه يعيش في حرمان لعدم قانونية أوضاعه في بلاده، ولأنه لا يحمل أي جنسية فلا يوجد ما يلزم الدولة بتقديم أي خدمات له حتى بصفته مواطن لدولة أخرى تربطها بها معاهدات أو التزامات دولية، مما يجعل الحقوق التي يحصل عليها مرتهنة بمدى احترام الدولة التي يعيش فيها لأبسط حقوق الإنسان.
معاناة البدون
تبدأ معاناة البدون منذ الولادة، حيث يولد الطفل بدون شهادة ميلاد، سواء كان لأبوين من فئة البدون أو حتى و إن كانت الأم تحمل جنسية ما فإن جنسيتها لا تمرر لطفلها؛ وذلك بسبب التمييز ضد المرأة في قوانين الجنسية في معظم الدول العربية. يكبر هذا الطفل ليواجه صعوبات في الالتحاق بالمدرسة، وإن توفرت له هذه الفرصة فإن تحصيله العلمي يتوقف عند الشهادة الثانوية، وإذا أراد مواصلة الدراسة فلا توجد أمامه طريقة سوى الالتحاق بإحدى الجامعات الخاصة ذات التكاليف الباهظة، إضافة إلى ذلك، لا يسمح له بالعمل أو السفر، وإذا قرر الزواج فإن زواجه لا يوثق في المحكمة بشكل رسمي، ولأن فئة البدون محرومة من الرعاية الصحية؛ فإن المرأة من هذه الفئة تضطر في حالات كثيرة لأن تستعير هوية امرأة أخرى لتتمكن من الولادة في إحدى المشافي، وفي حالة الوفاة فإن المتوفى من هذه الفئة يحرم من حقه بالحصول على شهادة وفاة كما حرم قبلها من أن يعيش حياة كريمة. أما أحياء البدون فهي معزولة وتفتقر لأدنى المتطلبات الأساسية للحياة. علاوة على ذلك، يعاني البدون من التهميش والتمييز الاجتماعي، حيث ينظر إليه في حالات كثيرة باعتباره مجرم أو دخيل على المجتمع. بين مطرقة الدولة وسندان المجتمع ينشأ جيل من المهمشين المعرضين لشتى أنواع الأمراض النفسية جراء شعورهم بالظلم والحرمان، مما يدفع نسبة غير قليلة منهم للانتحار أو تعاطي المخدرات أو ارتكاب الجرائم.
وكانت قضية البائع المتجول “محمد الحريصي” الذي أضرم النار في جسده عام 2013 من أبرز القصص التي تكرس معاناة هذه الفئة. حيث أقدم الحريصي حينها على ذلك احتجاجاً على مصادرة بضاعته ومنعه من البيع على قارعة الطريق من قبل أمانة الرياض. الحريصي من عديمي الجنسية، وتعيش عائلته -التي جاءت من منطقة على الحدود السعودية اليمنية- في حي فقير جنوب الرياض تملؤه القمامة والكلاب الضالة.
يعتبر محمد الحريصي واحد من عشرات الآلاف من البدون الذين يقطنون أرضي المملكة العربية السعودية منذ عقود ولعدة أجيال متلاحقة. من الصعب تحديد أعداد هذه الفئة بشكل دقيق؛ وذلك بسبب سياسات التعتيم والتكتم التي تنتهجها السلطات السعودية على أي معلومات تتعلق بهم.
يتواجد البدون في جميع أنحاء المملكة العربية السعودية، ويتركز غالبيتهم في المنطقة الشمالية من المملكة. ويتركز تواجدهم في عشوائيات مكة المكرمة الفقيرة . لم يحصل هؤلاء على هوية إما لعدم إدراك أجدادهم لأهمية التسجيل من أجل الحصول على أوراق ثبوتية أو لظروف الترحال الدائم التي كانت تطلبها طريقة حياتهم، أو لأسباب متعلقة بترسيم الحدود، بالإضافة لأعداد ممن كانوا يحملون هويات وتم سحبها لأسباب مختلفة ليصبحوا بدون هم وأبناءهم من بعدهم. يحصل البدون على ما يعرف بال”بطاقات السوداء” وهي بطاقة تعريف مؤقتة صالحة لمدة خمس سنوات، ولا توجد مراكز تجديد سوى مركز وحيد في مدينة حفر الباطن شمال المملكة، مخصص لكل حاملي البطاقات السوداء من جميع المناطق، يفتح لمدة لا تتجاوز الأربعة أشهر مرة كل خمس سنوات، ومن يتخلف عن التجديد فإن حياته تتوقف حيث لا يستطيع ممارسة أبسط حقوقه كاستخدام حسابه المصرفي أو حتى قيادة السيارة.
ضغوطات محتملة في انتظارالسعودي
يشكل توجه قطر والإمارات نحو تجنيس البدون تحدياُ أما السعودية و الكويت بسبب الضغوط الداخلية والخارجية التي من المحتمل أن تواجههما كل من الجارتين لكي تحذوا حذوهما، مما قد يؤثر على سمعتهما في حقوق الإنسان. ومن الممكن، أن يشجع السكان البدون على تنفيذ الاحتجاجات والإضرابات.على الرغم من أن هذا الاحتمال ضعيف جداً بسبب القبضة الحديدية التي تمارسها السلطات السعودية على الحريات في البلاد ولكنه في الوقت نفسه احتمال قائم. حيث قد يتشجع البدون الذين يعيشون في السعودية نتيجة ما يحدث في قطر والإمارات، فيضغطون لإحداث تغييرات مماثلة بالنسبة لهم، لكن من المرجح أن يواجهوا مقاومة وحتى حملة قمع من الدولة. وستؤذي مثل هذه الحملة السمعة الدولية للسعودية التي تعاني في الأصل من سمعة انسانية سيئة للغاية ما قد يؤثر على ميل المستثمرين للمملكة ويضر بعلاقاتها مع بعض حلفائها الغربيين مثل الولايات المتحدة. كل ذلك في الوقت الذي تسعى فيه دول الخليج و خصوصا السعودية كجزء من استراتيجيات التحديث الاقتصادية بالتخفيف من متطلبات الحصول على التأشيرة والجنسية لجذب السكان الموهوبين والأثرياء.
كما أن هناك مخاطر سياسية بالنسبة للنظام في الكويت، فإذا جنست العدد الكبير من البدون لديها -يقال إن معظمهم من الشيعة- سيتمكن هؤلاء حينها من التصويت في الانتخابات البرلمانية، مما قد يؤدي بالتالي إلى تغيير التوازن الحالي للسلطة. ويشعر العديد من السنة الكويتيين بالقلق من أن يقوض ذلك التوازن الطائفي في البلاد وأن يخلق فرصة نفوذ للشيعة في البلاد.