الوقت- في السنوات الأخيرة، من خلال انتهاج سياسة التدخل النشط في أزمات المنطقة العربية في غرب آسيا وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى الانخراط في العديد من المنافسات الإقليمية مع القوى الإقليمية والدولية، شهدت تركيا حضورًا عسكريًا غير مسبوق في حروب مختلفة. ومن بين الحالات التي يمكن مشاهدتها للمشاركة العسكرية التركية، المشاركة في الحرب الليبية والتي أدت إلى توتر العلاقات بين أنقرة وحلفائها الغربيين والعرب. وبينما دخلت تركيا في صراع واسع النطاق مع القوى الداخلية في شطري ليبيا (حكومة طبرق بقيادة خليفة حفتر) و(حكومة الوفاق الوطنية في طرابلس) في عام 2019، فقد بذلت قصارى جهدها للحفاظ على حليفها الرئيسي في ليبيا، الأمر الذي سلط الضوء على الدور العسكري لتركيا في الأزمة الليبية، وهذا الشيء زاد من معارضة العمل العسكري التركي، لا سيما في أعقاب نقل أنقرة للإرهابيين في الحرب السورية إلى ليبيا، وأصبحت الميليشيات المسلحة الموالية لعدد من الدول الآن ركيزة أساسية للجهود الدبلوماسية والمشاورات في عملية حل الأزمة السياسية في ليبيا.
وبعد اتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة بين الجبهتين الرئيسيتين في شرق وغرب ليبيا في أكتوبر 2020، والتي أدت إلى تشكيل اللجنة العسكرية المشتركة "5 + 5" وكان أحد البنود المهمة في هذا الاتفاق هو تسريع انسحاب القوات الأجنبية من ليبيا، ولهذا شهدت في الأسابيع الأخيرة تحركات سياسية لمختلف الجهات الفاعلة لتنفيذ هذا الاتفاق. وفي هذا الصدد، أعلن المبعوث الأممي الخاص بليبيا، الخميس الماضي، عن اتفاق الوفود المفاوضة الليبية في ختام ثلاثة أيام من المشاورات، وقعت بموجبه اللجنة العسكرية المشتركة اتفاقية انسحاب تدريجي ومتوازن للقوات الأجنبية. وفي وقت سابق من أكتوبر، التقى وزير الخارجية الروسي "سيرجي لافروف" بنظيره المصري "سامح شكري"، وقال إن بلاده اتفقت مع مصر على ضرورة خروج القوات الأجنبية من ليبيا. كما أكد "شكري" في كلمته في الاجتماع التشاوري لوزراء الخارجية العرب، الذي بدأ قبل الدورة الخامسة عشرة لمجلس جامعة الدول العربية بالقاهرة، أنه يدعم جهود اللجنة العسكرية المشتركة لتنفيذ انسحاب جميع القوات الأجنبية من هذه الدولة الواقعة في شمال إفريقيا.
ومن ناحية أخرى رحبت سفارات فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة في ليبيا يوم الثلاثاء 11 أكتوبر الماضي بالخطة الشاملة لسحب المرتزقة والقوات الأجنبية من الأراضي الليبية، والتي تمت صياغتها في نهاية المطاف خلال اجتماعات اللجنة العسكرية المشتركة في جنيف. وأصدرت السفارات بيانا مشتركا قالت فيه إنها مثل "جان كوبيس" المبعوث الأممي الخاص إلى ليبيا، رحبت بالخطة التي رافقتها اتفاقية وقف إطلاق النار الموقعة في 23 أكتوبر 2020 وقراري مجلس الأمن 2570 و 2571 واتفاق وقف إطلاق النار ونتائج قمة برلين بشأن ليبيا. وقال البيان إن القرار 2570 دعا جميع الأطراف في ليبيا وخارجها إلى التنفيذ الكامل لاتفاق 23 أكتوبر، والذي يتضمن انسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة من ليبيا.
وهنا يمكن القول أن الوضع أصبح صعباً بالنسبة لتركيا، حيث تم التوصل إلى إجماع من قبل مختلف الجهات الفاعلة على انسحاب القوات الأجنبية من ليبيا، ويجب أن يضاف إلى هذا الوضع، ضغوط الإدارة الأمريكية الجديدة، التي توترت علاقاتها مع أنقرة في مختلف القضايا، لا سيما في حلف شمال الأطلسي. ولقد وجه "بلينكن" الدعوة يوم أمس خلال مؤتمر لوزراء خارجية "عملية برلين"، إلى جانب اليونان وإسبانيا، عقد على هامش الدورة 76 للجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث اتهم صراحةً تركيا ودعا إلى الانسحاب الفوري للقوات التركية من ليبيا. وقد زاد ذلك من صعوبة الأمور بالنسبة لأنقرة حيث أقر الكونجرس الأمريكي قانون "الاستقرار الليبي" الذي يسمح للبيت الأبيض بفرض عقوبات اقتصادية على الأطراف الأجنبية التي تدعم الفصائل والجماعات الليبية.
وعلى صعيد متصل، قالت المستشارة الألمانية "أنغيلا ميركل" للرئيس التركي "رجب طيب أردوغان" إن انسحاب القوات الأجنبية من ليبيا سيكون "إشارة مهمة" لدعم حكومة الوحدة الوطنية بقيادة "عبد الحميد الدبيبة"، وذلك خلال مقابلة عبر الفيديو بين قائدي البلدين الأربعاء الماضي. وكانت الحكومة الليبية قد دعت أنقرة الاثنين إلى التعاون لتسهيل خروج هذه القوات. وشددت "ميركل" في هذا الصدد على أن "بدء انسحاب الجنود والمرتزقة الأجانب سيكون إشارة مهمة". وتقدر الأمم المتحدة بعشرين ألفا عدد الجنود الأجانب الأتراك في معظمهم، والمرتزقة "الروس والسوريين والتشاديين والسودانيين" المنتشرين في ليبيا. ودعت الحكومة الليبية أنقرة الاثنين الماضي إلى التعاون لتسهيل خروج هذه القوات. لكن وزير الخارجية التركي "مولود تشاوش أوغلو" انتقد خلال زيارته إلى طرابلس "الأصوات المتعالية التي تريد مساواة وجود تركيا في ليبيا مع المجموعات الأخرى غير الشرعية". وكانت جامعة الدول العربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي قد دعت نهاية نيسان/أبريل إلى "انسحاب فوري وغير مشروط لجميع القوات الأجنبية والمرتزقة" من البلاد. وتحاول ليبيا تجاوز عقد من النزاعات منذ سقوط نظام "معمر القذافي" عام 2011، سادته فوضى في السنوات الأخيرة بوجود سلطتين متنافستين في طرابلس ومنطقة برقة.
المرتزقة والحرب الأهلية
لطالما شكلت قضية المرتزقة والمقاتلين الأجانب عقبة أمام الانتخابات العامة في ليبيا. ولقد تم الآن تحديد موعد 24 كانون الأول (ديسمبر) للانتخابات، ولكن منذ ولادة الحكومة المؤقتة برئاسة "عبد الحميد الدبيبة" في أوائل مارس الماضي، قدّر المحللون أن الحكومة من المتوقع أن تستمر لفترة أطول من المتفق عليها بسبب وجود مرتزقة أجانب والقوى الأجنبية، والفترة الحالية ليست كافية لإجراء انتخابات. وبينما تضمنت اتفاقية وقف إطلاق النار انسحاب القوات الأجنبية والمرتزقة لمدة ثلاثة أشهر، إلا أن هذا الأمر لم يحدث قط. ولقد قدرت "ستيفاني ويليامز"، مبعوثة الأمم المتحدة آنذاك إلى ليبيا، في ديسمبر الماضي أن ما لا يقل عن 20 ألف مقاتل ومرتزقة أجنبي كانوا في ليبيا في السنوات القليلة الماضية، بمن فيهم روس وسوريون وسودانيون وتشاديون.
الإستراتيجية التركية
من جانبها، تقر أنقرة بأن انسحاب تركيا سيغير طاولة المفاوضات والدبلوماسية ضد الحكومة الليبية الشرعية اذا حدث قبل رحيل الميليشيات الموالية لـ"حفتر". وبحسب "أردوغان"، فإن وجود القوات التركية في البلاد يستند إلى اتفاق تم التوصل إليه بين أنقرة والحكومة الشرعية بهدف تدريب القوات الليبية. كما ستشعر بعض الجماعات الليبية المدعومة من تركيا بالقلق من استئناف الأعمال العدائية بعد الانسحاب العسكري التركي.
وعلى صعيد متصل، كشف خبراء ليبيون أن تركيا تراوغ في عملية سحب مرتزقتها من ليبيا، محاولة نسف العملية السياسية، لتحافظ على مكتسباتها على الأرض. وأكد الخبراء، أن تركيا لن تخرج من ليبيا إلا بانتفاضة شعبية أو بإرادة دولية قوية شبيهة بتلك التي أثمرت إنجاح الملتقى السياسي الليبي وتشكيل السلطة التنفيذية الجديدة. وقال "حسين مفتاح"، المحلل السياسي، إن "التصريحات التركية مراوغة مكشوفة"، مشيرًا إلى أن تركيا غير صادقة في سحب قواتها التي زجت بها في ليبيا. وأوضح المحلل السياسي، أن منهج الإدارة التركية نسخة مماثلة لمنهج تنظيم الإخوان في التلاعب بالمصطلحات واللعب على الأكاذيب، مؤكدًا أن أنقرة لن تعيد قواتها الموجودة في ليبيا، إلا بضغط دولي أو انتفاضة شعبية.
وفي غضون ذلك، تتمثل استراتيجية أنقرة في المساومة على وجود الميليشيات الأجنبية (رحيل المقاتلين السوريين مقابل انسحاب المرتزقة الروس والأفارقة) من أجل إبقاء القوات التركية في البلاد. وكجزء من هذه الاستراتيجية، سعت تركيا إلى إجبار حكومة الوحدة الوطنية الليبية على دعم موقف أنقرة في المؤتمرات الدولية. وفي 12 يونيو (قبل المؤتمر الليبي الدولي الثاني في 23 يونيو)، سافر وفد رفيع المستوى مؤلف من وزراء الخارجية والدفاع والداخلية التركي، والناطق الرسمي باسم الرئاسة، ورئيس المخابرات ورئيس الأركان العامة إلى ليبيا. وفي ظل هذه الظروف، قد تخفف تركيا الضغط علی نفسها وسحب قواتها من ليبيا من خلال الموافقة على انسحاب المسلحين السوريين، لكن سياسات أنقرة توسع الفجوة بين الأطراف الليبية المتنافسة وتزيد من حجم الجبهة المناهضة لتركيا دوليًا.