الوقت- تحولت أرمينيا مرة أخرى إلى مركز للاحتجاجات السياسية والاضطرابات بعد عامين من الهدوء والانتقال من مرحلة الاحتجاجات السياسية الواسعة النطاق ضد حكومة سيرج سركسيان في عام 2018. بالطبع، هاتان المرحلتان من الاحتجاجات متشابهتان للغاية ومختلفتان تماماً عن بعضهما البعض. حيث تتشابه احتجاجات 2020 و 2018 في مطالبة المحتجين باستقالة رئيس الوزراء وإسقاط الحكومة ، لكن الاختلاف العميق هو أنه في عام 2018، قاد نيكول باشينيان الاحتجاجات ضد حكومة سركيسيان ، والآن يطالب المحتجون بإقالة زعيم الاحتجاجات الشعبية المختار قبل عامين.
لا شك أن السبب الرئيسي للاحتجاجات يمكن أن يعزى إلى حرب قره باغ الأخيرة واتفاق السلام الموقع بين حكومتي جمهورية أذربيجان وأرمينيا تحت إشراف موسكو المباشر. حيث اندلعت حرب قره باغ الجديدة في 27 سبتمبر 2020 بين جمهورية أذربيجان وجمهورية أرمينيا. وبعد نحو 45 يوما، توقفت الحرب في توقيع اتفاق السلام بوساطة مباشرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لكن بعد توقيع اتفاق السلام، دعا المواطنون الأرمن وأحزاب المعارضة ، الذين كان يعتبرون اتفاق السلام هزيمة كبيرة، إلى استقالة رئيس الوزراء.
والنقطة اللافتة هنا هي أن باشينيان أعلن في بيان نُشر في صفحته على فيسبوك في 28 ديسمبر 2020، عن استعداده لإجراء انتخابات برلمانية مبكرة في عام 2021. كما دعا "القوى البرلمانية وغير البرلمانية الأرمينية" للتشاور حول هذه القضية. فوصف بعض المراقبين السياسيين بيان رئيس الوزراء الأرميني بأنه مخرج من الأزمة السياسية والبقاء في السلطة ، لكن آخرين يرون ان تراجع باشينيان هو أول خطوة له لقبول الهزيمة.
سلام قره باغ واشهار السيوف في وجه باشينيان
بدأت الاحتجاجات الشعبية في أرمينيا بعد توقيع اتفاق السلام. فبحسب بنود هذه الوثيقة، ستعيد أرمينيا إلى جمهورية أذربيجان جميع الأراضي التي لم تكن جزءا من منطقة قره باغ والتي احتلتها في أوائل التسعينيات. وستتقلص أراضي جمهورية قره باغ إلى المناطق التي احتلتها باكو أثناء النزاع. كانت مدينة شوشا من أكبر الخسائر التي تكبدتها قره باغ. في الواقع، بعد أن استولت القوات الأذربيجانية على مدينة شوشا الاستراتيجية ، قبلت يريفان إلى حد كبير الهزيمة في المعركة. تقع هذه المدينة على بعد 15 كم من ستيباناكيرت مركز منطقة قره باغ الانفصالية، على الشريان الحيوي الذي يربط هذه الجمهورية بأرمينيا. وكان سقوط هذه المنطقة نقطة تحول في الحرب.
كما ينص الاتفاق على أن يقوم الجانبان بإنشاء ممر في دالا لاتشين أي خط ربط خانكندي وأرمينيا خلال فترة ثلاث سنوات، وكذلك تسهيل عودة النازحين واللاجئين إلى إقليم قره باغ والمناطق المحيطة بها تحت اشراف مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. وتقرر أيضا أن ترسل روسيا حوالي 2000 جندي حفظ سلام إلى المنطقة لمراقبة تنفيذ الاتفاق. وفي شرح تفاصيل هذا القرار، قالت وزارة الدفاع الروسية إن 1960 جنديا روسيا إلى جانب 90 عربة مدرعة و 380 آلية عسكرية ومعدات أخرى سيستقرون في المنطقة.
وبسبب قبول باشينيان لهذا الاتفاق، حذره المتظاهرون عدة مرات لقبول دعوات استقالته، لكن باشينيان رفض التراجع امام مطلب المحتجين وأكد دافعه للبقاء في السلطة من خلال إعلان حالة الطوارىء لمدة شهر. حتى ان تحذير المتظاهرين ومهلة الأيام الثلاثة في 5 ديسمبر 2020 لم تهز إرادة رئيس الوزراء، ولكن يبدو أن باشينيان في طريقه نحو قبول حقائق المشهد السياسي الأرمني.
جرح مشاعر وكبرياء المواطنين الأرمن
من وجهة نظر الشعب الأرمني، فإن اتفاق السلام الذي وقعه رئيس وزراء هذا البلد هي إهانة كبيرة لمعنوياتهم الوطنية. حقيقة الأمر هي أن الحرب الأخيرة بين باكو ويريفان كانت الحرب الأكثر دموية بين القوات الأذربيجانية والقوات الانفصالية المدعومة من الأرمن على مدار الأعوام الثلاثين الماضية، مما حول نتيجة الحرب الى مسألة شرف بالنسبة للمواطنين الأرمن. فعلى الرغم من أن العملية كانت خلافاً لإرادة المواطنين الأرمن تماما، إلا أنهم من وجهة نظر اجتماعية نفسية لم يتمكنوا من تحمل الإذلال بقبول السلام أثناء الحرب.
حيث أظهر التحليل النفسي لهذه المسألة أن الإحباط التاريخي قد فُرض على المجتمع السياسي الأرمني، وأن هذا يمكن أن يمهد الطريق للسياسيين الشعبويين والتيارات السياسية للوصول إلى السلطة. أي أن هذا المجتمع جاهز الآن لقبول زعيم سياسي طليعي أو تيار بشعار الانتقام من أذربيجان وإعادة الأراضي التي احتلتها باكو. وكل ذلك يشير إلى أنه في الانتخابات البرلمانية المقبلة في أرمينيا، سيضع أي حزب حالي أو سياسي اصبعه على جرح الاذلال نتيجة حرب قره باغ وسيكون له بالتأكيد فرصة كبيرة للفوز في الانتخابات.
دومينو الإسقاط هذه المرة سيطيح بزعيم معارضة 2018
تُظهر مراجعة التطورات السياسية المحلية في أرمينيا على مدى العقود الماضية بوضوح أن الزعيم الشعبي للمعارضة في عام 2018 لديه فرصة ضئيلة للبقاء في السلطة. على ما يبدو إن نفس الطريقة التي استخدمها باشينيان في عام 2018 لإخضاع سيرج سركسيان قد نُفِّذت ضده هذه المرة. حيث كان باشينيان، وهو عضو سابق في البرلمان الأرميني، قد اطلق مبادرة "خطوتي" في عام 2018 ضد فترة ولاية سيرج سركسيان الثالثة. ففي اطار هذه الخطوة، قطع مشياً على الاقدام المسافة بين غيومري و يريفان. و انضم إليه كثير من الناس في هذا الخطوة حتى وصل عددهم إلى عشرات الآلاف.
نجحت استراتيجية العصيان المدني في نهاية المطاف، وفازت أحزاب التيارات السياسية الموالية لباشينيان بنحو ثلثي مقاعد البرلمان ونصبته رئيساً لمجلس الوزراء. لكن يبدو أن شهر عسل زعيم معارضة عام 2018 يقترب من نهايته بسرعة. وفي هذا الصدد، من الضروري الانتباه إلى عدة نقاط:
أولاً، ليس المحتجون مستعدين للتراجع عن مطلبهم باستقالة رئيس الوزراء رغم وعود باشينيان وحتى الإجراءات العملية كتعيين وزيرين للخارجية والدفاع جدد.
ثانياً، استراتيجية فرض حالة الطوارىء ومقاومة المتظاهرين لم تجدي نفعا حتى الآن ولم تستطع إحداث تغييرات كبيرة في مجرى شؤون ومطالب المحتجين.
ثالثاً، أدى توقيع اتفاق وقف إطلاق النار إلى تراجع شعبية باشينيان ، ويبحث مواطنو هذا البلد عن شخص مثل فازجين مانوكيان (74 عاماً)، والذي شغل منصب رئيس الوزراء في الفترة 1991-1991 وكان وزير الدفاع في الفترة 1992-1993 في ذروة حرب قره باغ الأولى، ورمز الانتصار في حرب قره باغظ، لتعيينه رئيساً للوزراء.
رابعاً، دعا الرئيس الحالي أرمين سركيسيان أيضا إلى ضرورة استقالة باشينيان ، اذ يشير هذا الأمر إلى أن رئيس الوزراء يواجه معارضة جدية داخل هيكلية الحكومة.
خامساً، خلافاً لعام 2018 ، يبدو أنه في حالة إجراء انتخابات برلمانية مبكرة في عام 2021 ، ستكون فرص باشينيان ضئيلة للفوز مرة أخرى لصالح الاحزاب المؤيدة له في البرلمان. وفي هذا الصدد، نرى أن 17 حزبا أرمنيا انضموا إلى صفوف المعارضين لرئيس الوزراء ويطالبون باستقالته.