الوقت- بعدما أكد زعيم حركة النهضة في تونس راشد الغنوشي، قبل عام ونصف تقريباً، عدم وجود مستقبل أمام نظام الرئيس السوري بشار الأسد، وإعتبر سقوط النظام السوري مسألة وقت لأن "الخوف غادر الشعوب العربية ولا يمكن إعادتها للقمقم من جديد"، عاد الغنوشي ليطالعنا بمواقف جديدة ومعاكسة تماماً، حيث أوضح في تصريح له مساء السبت أنه "لا يمانع أن يشارك النظام السوري في مؤتمر مصالحة عربي بين كافة المتخاصمين تحتضنه تونس، وأن الدعوة مفتوحة أمام الجميع وأنه لا يملك عداوة شخصية مع النظام لكنه لا يريد الاقتتال والعنف"، وفق تعبيره.
بدايةً، يجب التوقف ملياً أمام تطورات الموقف التونسي، واللهجة الجديدة لحزب النهضة الإخواني تجاه الرئيس السوري بشار الأسد، وعلينا في هذا المقام أن نتحقق من مدى أهمية اللحن الإخواني الجديد، ليس فقط في النتائج، بل في الأبعاد أيضاً.
عند الدخول في النتائج، تتضح معالم المشهد السوري الجديد في المنطقة والعالم، لاسيّما بعد التدخل الروسي الأخير، وتغيّر الموقف العالمي إزاء الرئيس الأسد وغياب الشروط المسبقة برحيله. إن حضور النظام السوري، لأول مرّة منذ بدء الازمة، في مؤتمر مصالحة عربي يحتضن كافّة المتخاصمين، يعني تدحرج العديد من الدول العربية بإتجاه دمشق، خاصةً أن التقارب السوري المصري بدا واضحاً في الآونة الأخيرة وهناك العديد من الدول الأخرى تنتظر بفارغ الصبر الظروف الملائمة عربيا للإتجاه نحو الرئيس الأسد. ولكن كيف يمكننا قراءة أبعاد اللحن الجديد لرئيس حركة النهضة التونسية؟ وهل يمكن لهذه المؤتمرات أن تؤسس لصيغة جديدة تفضي إلى نتائج في صالح الشعوب، لاسيّما الشعب السوري الذي يدق أبواب أوروبا في ظل إقفال العديد من الدول العربية أبوابها أمامه، رغم أنها كانت من طلائع الدول التي تشدّقت بحماية الشعب السوري ودعمه ؟
يمكننا القول اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إننا كشعوب عربية بحاجة إلى مؤتمرات مصالحة تحتضن كافّة المتخاصمين، وتنبذ خطاب العداوة والبغضاء بين الأفرقاء في الدول العربية والإسلامية، كما إعتبر الغنوشي، كما أن رعاية جامعة الدول العربية لهذه المؤتمرات، يمكن أن تفضي إلى نتائج أكثر إيجابية. وأما بالنسبة إلى أبعاد تصريح الغنوشي فتجدر الإشارة إلى النقاط التالية:
أولاً: يقف حزب النهضة الذي خسر في الإنتخابات الأخيرة وراء طرد السفير السوري من تونس في بداية الأزمة، كما أن موقف النهضة من دعم جماعة الإخوان المسلمين في سوريا ضد الرئيس الأسد كان واضحاً وغير قابل للتراجع أو المواربة، إلا أن الموقف الجديد يعكس صورة مغايرة تماماً.
ثانياً: رغم أن تغيير لحن الخطاب الإخواني التونسي تجاه الرئيس الأسد يعتبر حسن نية، وربّما إعترف ضمني بالخطأ، إلا أنه جاء بعد صمود النظام السوري أمام الجماعات التكفيرية في سوريا، وغياب كافّة الأطراف السياسية التي يمكن التعويل عليها من قبل الغنوشي، في ظل إقتصار المعادلة على المواجهات بين الجيش والجماعات التكفيرية.
ثالثاً: إدراك الغنوشي فشل المعارضة في سوريا أحد أبرز أسباب الموقف الجديد، فقد إعتبر رئيس حركة النهضة في وقت سابق "إن النخبة في المعارضة السورية فشلت في الوصول إلى إجماع وهو ما أدى إلى إطالة الأزمة السورية بعكس النخبة في تونس التي توصلت إلى إجماع رغم المواجهات التي عاشتها".
رابعاً: يرى البعض في تصريحات الغنوشي، التي نؤكد ضرورتها وصوابيتها في الفترة الراهنة، محاولة جديدة لحجز مقعد لجماعة الإخوان في المعادلة السورية المقبلة، لاسيّما أن المعادلة الميدانية تؤكد غياباً شبه تام لهذه الجماعة في سوريا، وإنصهار جزء كبير منها في الجماعات التكفيرية، سواء تنظيم داعش الإرهابي أو جبهة النصرة أو بقيّة المجموعات المتطرفة.
خامساً: رغم أهمية الموقف الجديد لحزب النهضة تجاه الرئيس الأسد، إلا أن راشد الغنوشي إنتقى كلامه بدقّة متناهية حيث قال: لا أملك عداوة شخصية مع النظام السوري ولا أمانع بمشاركته في مؤتمر للمصالحة تحتضنه تونس. كلام الغنوشي "حمّال للأوجه"، وقد إنتقى كلامه بدقة حتى لا تحترق أوراقه في العديد من الدول العربية التي ترفض التقارب مع الرئيس الأسد، وعلى رأسها السعودية التي بدأت منذ فترة بالتقارب مع جماعة الإخوان، لاسيّما الغنوشي.
في
الخلاصة، وبصرف النظر عن أي أهداف تكتيكية أو إستراتيجية لحزب النهضة من الموقف
الجديد، الذي جاء بعد يومين من إعلان الغنوشي عن طلبه من السلطات السعودية للدخول
في وساطة بين الرئيس السيسي وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، يمكننا القول إن
مواقف الغنوشي تنم، ظاهرياً على الأقل، عن واقعية ومسؤولية تجاة الأمتين العربية
والإسلامية، كما أنها تؤكد في الوقت عينه إدراك الحزب المتأخر لمواقفه وأخطائه
السابقة تجاه الأزمة في سوريا. ولكن أن تصل متأخراً خير من أن لا تصل، وإنتظروا
مواقف مماثلة تجاه سوريا في الفترة المقبلة.