الوقت- الجميع يعلم أن تونس هي أكثر البلاد العربية قدرة على التعبير عن الرأي وأكثرها حريةً من ناحية المساحات المعطاة لجميع الأحزاب على اختلاف أيديولوجياتها، وهذا الأمر لا يجعلنا نستغرب قيام حزب داخل تونس بمطالبة دولة استعمارية مثل فرنسا بالاعتذار للشعب التونسي عما قامت به من جرائم وانتهاكات بحق التونسيين.
ربما فشلت اللائحة البرلمانية في اقتناص موافقة بغالبية الاصوات لصالح المشروع الذي تقدمت به كتلة ائتلاف الكرامة "19 مقعدا" من البرلمان ولكن مجرد جرأتها على طرح مثل هذه الفكرة تحت قبة البرلمان في ظل التأثير الفرنسي الذي لايزال حاضرا وبقوة داخل تونس بفعل الاستثمارات الفرنسية هناك، يعد أمرا ملفتاً وله تداعيات قوية في المستقبل، وهذا يدل على ان روح الثورة ضد الاستعمار لاتزال حاضرة ضد الاستعمار بجميع اشكاله.
عملية التصويت التي انطلقت صباح الثلاثاء واستمرت حتى فجر الاربعاء، شهدت موافقة 77 نائبا على اللائحة، واحتفاظ 46 نائبا بأصواتهم، واعتراض خمسة آخرين (128 نائبا شاركوا في عملية التصويت من أصل 217).
ويتطلب تمرير اللائحة حصولها على الأغلبية المطلقة من الأصوات، أي 109 أصوات بحسب المادة 141 من القانون الداخلي للبرلمان. وقد صوّت لصالح اللائحة كتلة ائتلاف الكرامة ونواب من حركة النهضة (54 مقعدا) وبعض نواب التيار الديمقراطي (22 مقعدا) وحركة الشعب (14 مقعدا) وقلب تونس (29 مقعدا) ومستقلين.
فيما تحفّظت كتلة الحزب الدستوري الحر (16 مقعدا) وكتلة تحيا تونس (14 مقعدا).
ماذا يمكن ان تقدم فرنسا لتونس؟
صحيح ان فرنسا لديها استثمارات كبيرة داخل تونس، الامر الذي منح التونسيين العديد من الوظائف لكن يبدو ان تونس تتطلع الى الحرية المطلقة وطي صفحة الاستعمار الى الابد والتعاطي مع فرنسا بقرار مستقل وشعبي، خاصة وان النموذج الفرنسي فشلا ذريعا داخل فرنسا نفسها، ففرنسا التي بشرت بعهد الأنوار و حقوق الانسان كانت أسوء مستعمر يسجله التاريخ الحديث من حيث سفك الدماء و استئصال الثقافات المحلية و فرض الهيمنة ودعم الاستبداد والدكتاتوريات. كما أن الانحلال الأخلاقي الذي شهده المجتمع الفرنسي منذ بداية الستينات و إلى اليوم نتيجة اعتماد نموذج علماني معاد تماما للأديان و الأخلاق، نتج عنه تفكك اجتماعي بدأت تحس نتائجه في ثمانينات القرن الماضي، وهذا التفكك الاجتماعي و الأسري أدى بدوره إلى تراجع اقتصادي و علمي كبير منذ بداية هذا القرن.
ولكن يجب ألا ننفي بأن هناك من هو داخل تونس لايزال يدافع عن فرنس بشكل أو بأخر ويرفض ادانتها بخصوص الجرائم التي ارتكبتها في تونس في عصر الاستعمار الذي استمر 75 عاما، حيث اعتبرت رئيسة الحزب الدستوري الحر المناهض للإسلاميين عبير موسى في مداخلة ان "الطلبات الموجهة في صلب هذه اللائحة مباشرة من البرلمان التونسي إلى الدولة الفرنسية مخالفة للقانون، لأن هناك الأعراف والبروتوكولات الدبلوماسية، ورئيس الجمهورية هو المكلف برسم السياسيات الخارجية وفقا للدستور".
في المقابل، ساند الطلب النائب الذي يقدم نفسه مستقلا وتم انتخابه سابقا عن ائتلاف الكرامة رضاء الجوادي، وقال "ما فعلته فرنسا بنا هو احتلال".
وأضاف أن "المراكز الثقافية المشبوهة للاحتلال الفرنسي أخطر من القواعد العسكرية، إنها قواعد للغزو الثقافي تمارس تدميرا للأخلاق والقيم".
ماذا تتضمن اللائحة المقدمة؟
وتتضمن اللائحة مطالبة الدولة الفرنسية بإعلان اعتذارها الرسمي والعلني عن كل الجرائم التي ارتكبتها في حق الشعب التونسي زمن الاحتلال المباشر وبعده، من جرائم قتل واغتيال وتعذيب واغتصاب ونفي وتهجير قسري ونهب للثروات الطبيعية والأملاك الخاصة ودعم صريح للاستبداد والدكتاتورية.
كما تنص اللائحة على أن يطالب البرلمان فرنسا بأن تبادر بتعويض تونس وكل المتضررين من الجرائم المذكورة وكل الذين لهم حق قانوني تعويضا عادلا مجزيا وفقا ما تقتضيه القوانين والأعراف الدولية، بما من شأنه أن يساهم في مسح الآلام والأحزان والمآسي التي تسبب فيها الاحتلال البغيض.
وجاء في نص اللائحة أيضا أن تضع فرنسا على ذمة الدولة التونسية والباحثين وعموم الناس كامل الأرشيف الرسمي المتعلق بتلك الحقبة السوداء حتى تعي الأجيال الجديدة مساوئ الاستعمار وحتى لا تتكرر مآسيه.
وتؤكد اللائحة أن هذا الاعتذار النبيل سيكون مناسبة لطي صفحة الماضي الاستعماري الأسود، وسيؤسس لعلاقات أكثر متانة ووثوقا بين الشعبين التونسي والفرنسي.
ومطلب الاعتذار من فرنسا كان بين النقاط الأساسية في برنامج ائتلاف الكرامة (يعتبر قريبا من النهضة) الانتخابي الذي شارك به في انتخابات أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
في الختام؛ إن انتشار وعي التونسيين بأن لا مستقبل لهم مع النموذج الفرنسي و الذي لم ينجح في أي من المستعمرات الفرنسية (تشاد، مالي، النيجر، الجزائر...) حيث أنها الأسوء في الفساد و الاستبداد و الفقر و البطالة و سوء التصرف و الإدارة، يجعل من فرنسا في موقف الهزيمة المدوية في تونس. وهو ما يفسر و لو جزئيا ردّات فعلها المتشنجة كلما خطت تونس خطوة نحو الانعتاق و الخروج من تحت عباءتها و تحقيق مصالحها الاستراتيجية بعيدا عن الهيمنة الفرنسية.
في الحقيقة لقد ارتكب الاستعمار الفرنسي جرائم متنوّعة ومتعددة في حق التونسيين منذ بداية غزوه واحتلاله للبلاد ولم يتردد الجيش الفرنسي في الأثناء بحرق المزروعات وأسر أفراد القبائل ونفي مجموعات من سكّان القبائل (400 فرد من قبيلة وشتاتة)، وللتذكير فإنّ عمليّة النفي المشار إليها هنا، كانت قامت بها السلطات العسكريّة الغازية التي كانت تدير البلاد فعليّا بين 1881 و1883، وقد تم نفي مئات الأفراد من قبائل وشتاتة إلى جزيرة سانت مارغريت الفرنسية (جزيرة بطول 3 كلم وعرض 900 متر، قرب مدينة "كان").