الوقت- لا صوت يعلو فوق صوت مكافحة الفساد في لبنان هذه الأيام، لكن الترجمة العملية لهذا الخطاب لم تبدأ على الأرض في ظل إقرار الجميع بصعوبة هذه المعركة.
حزب الله أحد هذه الأطراف التي قرّرت المضيّ قدُماً بها، مدركاً أن الأعين تتركّز عليه داخلياً، إقليمياً ودولياً، وبالتالي يرى نفسه المعنى الأوّل في هذه المواجهة التي قد لا تُحسب له من قبل الكثيرين حال نجاحه بها، إلا أنها ستُحسب عليه، وعلى محور المقاومة بأكمله، حال تعثّرها.
ليست المرّة الأولى التي يعلو فيها صوت مكافحة الفساد في لبنان، بل إن أغلب الأمواج السابقة ما لبثت أن تكسّرت على صخرة الواقع السياسي اللبناني من جهة، وفساد النظام من جهة أخرى.
وبالتالي، ليست القضية هي قضية فاسدين في هذه الوزارة أو تلك، بل إن بيت القصيد يكمن في تجذّر الفساد النظمي، وبالنتيجة ضعف نظام الرقابة والمحاسبة.
وعند الحديث عن فساد نظمي، فلا بدّ من الاستفادة من التفكير النظمي أيضاً لحل هذه المشكلة، يمكننا الإشارة إلى درسين رئيسيين من دروس التفكير النظمي لحل مشكلة الفساد.
أولاً: إن مشاكلنا اليوم هي نتاجٌ للحلول القديمة، والحلول غير الناضجة اليوم، ستؤسس لمشكلات المستقبل، ثانياً: لا يمكن حلّ المشكلات بنفس النمط الذهني التي أوجدنا بها هذه المشكلة.
واقع جديد
هناك مؤشرات عديدة تؤكد أن حزب الله يؤسس لمرحلة التحوّلات الكبرى على الصعيد السياسيّ، بدءاً من كلام الأمين العام السيد حسن نصر الله الذي تحدّث عن الواجب الشرعي في مكافحة الفساد، مروراً بكلام نائب الأمين العام الشيخ نعيم قاسم الذي تحدّث عن مكافحة كل أشكال الفساد ومسمّياته، وبالوقاية والعلاج، وليس انتهاءً بالملفات الحسّاسة التي فتحت نيابياً ووزارياً، كما ورد في كلمة النائب حسن فضل الله.
في الحقيقة، هناك العديد من المؤشرات التي تبعث على الأمل في نجاح هذه التجربة حيث يبدو حزب الله واقعياً في هذه المعركة، وهذا ما سمعناه من السيد نصرالله الذي أقرّ بصعوبتها، وبالتالي ما أراد الحزب قوله أنه لا يمكن حلّ هذه المسألة بين ليلة وضحاها. لا يعتقدنّ أحد بأن قضية الفساد ستنتهي بعد أشهر أو سنوات، بل إن النظام الحالي من الفساد هو نقطة فرضية غير موجود في الواقع ولا يمكن الوصول إليها، ولكن كلّما اقتربنا منها أكثر كلّما كان النظام أقلّ فساداً.
كذلك، يظهر حزب الله مرونة في التعاون مع كل الأطراف المستعدّة لمكافحة الفساد، حتى الخصوم السياسيين، الأمر الذي يعزّز من فرص نجاح هذه التجربة.
لكن في الوقت عينه هناك جملة من المحاذير التي يجب أن يلتفت إليها نواب ووزراء حزب الله، وكذلك جميع الأجهزة المعنية بمكافحة الفساد، أبرزها:
أولاً: الآن ليس الوقت المناسب للحديث عن وجود فاسدين فهؤلاء موجودون في كل زمان ومكان.
لقد شكّل الفاسدون غطاءً لفسادهم عبر القانون، وهذا ما أفهمه من كلام السيد نصرالله عندما قال "ستجد فساداً ولن تجد فاسدين".
هنا يشير التفكير النظمي إلى أن المسار الأساسي الصحيح يكمن في إصلاح النظام والقانون، وليس البحث عن الفاسدين، ومن التبعات السياسية لهذا الأمر أنّه يعفي الحزب من الحرج الذي يتحدّث عنه البعض فيما يتعلّق بتورّط حلفائه في الفساد.
ثانياً: على جميع ممثلي الحزب الالتزام بالواقعية التي تحدّث عنها السيد نصرالله، ليس المقصود هنا الخمول واليأس، بل الإصرار والعزيمة دون رفع السقف عالياً أمام الناس لأن هذا الأمر لن يلبث أن يتحوّل بعد مدّة إلى كرة ثلج تكبر مع مرور الزمن وترتد على أصحاب الأسقف العالية، فعلى ممثلي الحزب تقديم تقارير واضحة عن المشاريع والإنجازات في الوزارات والمؤسسات.
من غير الصحيح التغافل عن أي تقدّم كبر حجمه أو صغر، إلا أنه من غير الصحيح أيضاً أن تقع وسائل الإعلام المحسوبة على الحزب في فخّ تصخيم هذه الإنجازات التي ستترجم على أرض الواقع عاجلاً أم آجلاً.
يلعب الإعلام المقرّب من حزب الله دوراً رئيسياً في هذا الشقّ، فمن حقّ جماهير الحزب، التي قدّمت الغالي والنفيس عندما أدركت حجم الخطرين الإسرائيلي والتفكيري، أن تدرك جيّداً حجم هذه المعركة وصعوباتها عبر تقديم تجارب دول العالم في هذا المجال. هناك من سيحاول زعزعة ثقة جماهير الحزب عبر مسألة مكافحة الفساد، وبالتالي يتحمّل إعلام حزب الله والأجهزة التوعوية التابعة له الشقّ الأكبر، وأي تقصير في هذا المجال يعدّ فساداً بحدّ ذاته.
ثالثاً: من غير الصواب أن يقع الوزراء، وتحت وطأة الضغط الشعبي والسياسي، في فخ البحث عن تحقيق إنجازات سريعة تصلح للاستخدام السياسي لا أكثر.
إن عملية الإصلاح تحتاج إلى مسار زمني محدّد كي تكون هذه الحلول مستدامة، فقد أثبتت تجربة وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل في وزارة الطاقة فشلها على أرض الواقع.
لا يختلف اثنان على نشاط الرجل، لكن هذا النشاط لا يكفي، فقد سارع إلى حلّ "البواخر" التكتيكي الذي يؤجل المشكلة بدلاً من حلّها.
اليوم، وبعد مرور سنوات رحلت البواخر ومشكلة الطاقة لا تزال عالقة.
إن أغلب تجارب مكافحة الفساد في العالم سقطت لهذا السبب، فالحديث عن الحلول السريعة مثالية مفرطة وابتعاد عن الواقع، وإجراء هذه الحلول هو تأجيل للمشكلة التي ستكبر مع مرور الزمن.
رابعاً: لا بدّ من مواجهة الفساد بكل أبعاده، فإذا قطعت له جذعاً نما مقابله عشرة، لذلك لا بد من معالجة التربة التي تعيش فيها شجرة الفساد هذه، ومعالجة هذه التربة تحتاج إلى إقامة مؤتمرات علمية وندوات تثقيفية للإضاءة على هذا المسار.
على نواب ووزراء حزب الله أن يكونوا صريحين مع البيئة الحاضنة بأنه لا يمكن نجاح الحزب في هذا المعركة دون دعمهم، تماماً كما في المعركة مع الكيان الإسرائيلي والجماعات التكفيرية. يجب أن يكون كل فرد من أفراد هذا المجتمع شريكاً في مكافحة الفساد، وبالتالي لا يحقّ لمن يعمد إلى الفساد عبر فواتير الدواء وغيرها أن يتحدّث عن الفاسدين، أو أن يطالب الحزب بالوعود التي قدّمها قبل الانتخابات.
خامساً: بدا حزب الله حذراً جدّاً في انتخابه لوزرائه الذي كانوا جميعهم فوق الــ60 عاماً، ليصبح الحزب الأكثر هرماً في الحكومة بمعدّل 65 عاماً.
وبالتالي، لا بدّ من رفد هؤلاء الوزراء بفريق كفاءات أقرب إلى التكنوقراط منه إلى السياسة لمعالجة هذا الأمر.
يوفّر الوزير رؤية حزب الله الإيديولوجيّة في الحكومة، بينما يعمد فريق الكفاءات لدى وزراء الحزب ونوابه إلى تأمين مستلزمات الرؤية الفنيّة التكنوقراطيّة، وبالتالي ينجح في المواءمة بين الرؤيتين الإيديولوجيّة والتكنوقراطيّة على حدّ سواء.
في النهاية، وبالرغم من حجم الصعوبات التي تنتظر حزب الله في معركة مكافحة الفساد، فإن النافذة المتاحة لإسقاط منظومة الفساد كبيرة جدّاً، والمناخ اللبناني الحالي والضغط الاقتصادي الذي يعيشه الناس، كلّها عوامل وإن بدت تهديداً في الظاهر، لكنها في الحقيقة فرصة ثمينة للإصلاح.