الوقت- بعد سنوات على الأزمة السوريّة، وأشهر على المراوغة التركيّة في إدلب، وبعد أيام على الذكرى الأربعين للثورة الإسلامية الإيرانية، حلّ الرئيس الأسد ضيفاً على العاصمة الإيرانية طهران في خطوة حملت رسائل على أكثر من صعيد عنوانها الأساسي: استراتيجية العلاقة بين دمشق وطهران.
تأتي الزيارة في مرحلة مفصلية تشوبها الكثير من الضبابية، ويكثر فيها غبار سنوات الحرب الثماني، وفي وقت يحزم فيها الأمريكي أمتعة الخروج خالي الوفاض من سوريا، ويشحذ التركي سيوفه لمواجهة الأكراد من جهة، بينما يناور على عامل الوقت لمنع معركة الحسم في إدلب من جهة أخرى، وتعيش بعض العواصم العربية تبعات فشل الرهان في سوريا لتقف وقفة الحيران الذي يرغب في الاقتراب من سوريا وحفظ ما تبقى من ماء الوجه في الوقت الذي تخشى فيه من أي رد فعل أمريكي أو تنازلات لا يحتملها.
في الشكل، بدت الزيارة أكثر من زيارة انتصار ووفاء، ومن المجحف حصر أبعاد هذه الزيارة بالتهنئة والشكر، لم تكن لغة الجسد التي ظهرت على الرئيس الأسد دبلوماسيّة، بل غابت قواعد البروتوكول عن المشهد، قائد الثورة الإسلاميّة آية الله خامنئي قابله بالمحبة ذاتها أيضاً حيث احتضن "الرئيس المنتصر" بحرارة زادتها دفئاً اللغة العربية التي تحدّث بها الطرفان.
أما في المضمون، فقد حملت زيارة الرئيس الأسد إلى طهران والتي تعدّ الأولى منذ بدء الأزمة السورية، وأول محطّة خارجيّة بعد موسكو، رسائل على أكثر من صعيد، يمكن الإشارة إليها في جملة من النقاط، أبرزها:
أولاً: تأتي هذه الزيارة في صلب العلاقة الاستراتيجية بين دمشق وطهران، كما تُرسّخ هذه الزيارة استراتيجية العلاقة بين البلدين، لا ارتباطها بتوافقات مرحلية، وبالتالي فإن التحالف الاستراتيجي بين سوريا وإيران يشكّل هويّة لمحور المقاومة. هنا تجدر الإشار إلى أن زيارة الرئيس الأسد تأتي بعد أسابيع قليلة على توقيع سوريا وإيران "مذكرات تفاهم استراتيجية" تصوغ مسار العلاقة الاقتصادية المستقبلية بين البلدين.
ثانياً: لا تنفصل الزيارة التي جاءت في توقيت حسّاس تحضر فيه تحديات إقليمية ودولية متشابكة، عن هزيمة المشرع الأمريكي في سوريا.
لقد شكّل الحضور الأمريكي في المنطقة، ومن خلفه المشروع الأمريكي الذي حمله داعش وأخواته، تحدياً بارزاً لمحور المقاومة، اليوم جاءت الإجابة على لسان السيد خامنئي الذي قال لضيفه الأسد: "إن مفتاح النصر في سوريا، وهزيمة أمريكا ومرتزقتها في الإقليم، هو الرئيس السوري وعزيمة الشعب ومقاومته"، مؤكداً أن هوية المقاومة وقوتها تعتمدان على التحالف الاستراتيجي لسوريا وإيران، الذي من شأنه إفشال تنفيذ خطط الأعداء، وفي مقدّمتهم أمريكا.
ثالثاً: لم يغب الشقّ العسكري عن الزيارة، فقد حضر رجل الميدان اللواء قاسم سليماني في لقاءات الرئيس الأسد مع السيد خامنئي والرئيس روحاني، وهذا الأمر إن دلّ على شيء إنما يدل على الأبعاد العسكرية للزيارة، وعند الحديث عن الشقّ العسكري لا بد من التطرق إلى مصير إدلب والمعركة المرتقبة في ظل نفاد صبر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومراوغة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ما يعزز هذا الأمر كلام أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني الذي تحدّث عن تطورات مرتقبة ومهمّة على الساحة السورية.
الروسي الذي دخل متأخراً عن حليفه الإيراني في الأزمة السورية، يتعاطى اليوم بطريقة حذرة مع مسألة إدلب خلال مفاوضاته مع الجانب التركي، وهو ما تتحفّظ عليه دمشق، لكن الجانب الإيراني الذي أمهل الجانب التركي فرصة زمنية محدّدة، يبدو أنه يتجه مع الرئيس الأسد لخوض هذه المعركة الحاسمة، وتشير التطورات إلى حضور روسي فاعل دعماً لهذه المعركة، سواء في السماء السورية، أم في الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
رابعاً: تحمل هذه الزيارة أبعاداً ورسائل ترتبط بالكيان الإسرائيلي الذي فشل في الحشد ضد إيران في وراسو، حين إن هذه الزيارة قبل يومين فقط من لقاء مؤجّل سابقاً بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حيث يحضر الملف الإيراني على الطاولة بقوة، لا شكّ أن هذه الزيارة، وفضلاً عن كونها تعزز الترنيمة السورية الإيرانية أن الضغوطات الإسرائيلية لا يمكنها كسر التحالف القائم والحضور الإيراني الشرعي في سوريا، ستؤثر على مصير نتنياهو المتراجع في استطلاعات الرأي الانتخابية، نتنياهو الذي تباهى بالحديث عن "طرد إيران من سوريا" وأحياناً إبعادها ١٠٠ كلم عن الحدود، وقبل ذلك تباهى كثيراً بالحديث عن إسقاط الرئيس الأسد، سيقف اليوم خالي الوفاض أمام منافسية في الانتخابات، بعبارة أدق، ما أراد نتنياهو حصده انتخابياً من الزيارة إلى موسكو، خسر أضعافه جراء زيارة الرئيس الأسد إلى طهران، فهل سيُسقط الرئيس الأسد نتنياهو خلال بضع ساعات في زيارته إلى طهران، بعد فشل الأخير خلال ٨ سنوات وعشرات الزيارات وبضع المليارات من الدولارت من القضاء على الأسد؟
خامساً: الرسالة الخامسة تبدو موجّهة لبعض الدول العربية التي تبحث عن عودة "آمنة" إلى دمشق، عنوانها الابتعاد عن إيران مقابل كسر العزلة السياسيّة التي تعيشها دمشق، لم نعتد على أن يفرض الخاسر شروطه، والرسالة تؤكد أن لا مجال للمساس بين العلاقة العربية والعلاقة مع إيران.
دمشق لن تقدّم تنازلات، كما أنها بالطبع لم ولن تقفل أبوابها أمام الزوار العرب الذين خرجوا بإرادتهم، سوريا لا تزال تعتبر نفسها عمقاً قومياً للعروبة، وموقفها من فلسطين خير دليل على ذلك. اللافت أن هذه الدول العربية نفسها كانت قبل سنوات ترفض مشاركة إيران في أي مفاوضات حول سوريا، لكنهم اليوم أكثر لاعب هامشي في هذه الأزمة.