الوقت - أصبح مصير إدلب باعتبارها القاعدة الأخيرة للمجموعات الإرهابية التكفيرية والمعارضة السورية المسلحة، أهم قضية في هذه الأيام لأكبر أزمة عالمية في القرن الحادي والعشرين، وذلك بسبب تأثير هذه المحافظة الحاسم في معادلات مستقبل سوريا، والمصالح المختلفة والمتناقضة أحياناً للجهات الخارجية والمستفيدين من هذه الحرب، في الواقع، إن أهم سبب لتعقيد عملية تحرير إدلب، هو خوف الجبهة المعارضة لدمشق من نهاية الأزمة في سوريا، الأمر الذي سيقلل إلى أدنى حدّ ممكن قدرتهم على المساومة في تشكيل معادلات مستقبل سوريا (ومن خلالها معادلات المنطقة بأكملها)، إن خسارة الغرب الكاملة لسوريا تعني فشلاً كاملاً لمشروع إعادة النظام الإقليمي غرب آسيا، للحفاظ على المصالح الاستراتيجية للغرب في المستقبل (الهيمنة على موارد الطاقة في المنطقة وضمان أمن الكيان الإسرائيلي من خلال إضعاف محور المقاومة)، بعد إعلان الإدارة الأمريكية عن سياسة تغيير الاتجاه (pivot) أو إعادة الموازنة (re-balancing) نحو شرق آسيا، والتي بدأت منذ عهد أوباما واستمرت أثناء رئاسة ترامب من خلال سياسة الحدّ من عبء التكاليف ومسؤولية الدفاع عن الحلفاء.
الغرب يبحث عن التدخل العسكري
إن الوجود المكثّف للجماعات الإرهابية، وعلى الأخص هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) والتي حددتها الأمم المتحدة كجماعة إرهابية، قد قلل من قدرة الدول الغربية على المناورة لخلق حاجز قانوني ضد عملية القضاء على الجماعات الإرهابية، لذلك، تبحث هذه الدول عن ذريعة لتبرير مشروعية منع سوريا وحلفائها من تحرير إدلب، وفي هذا السياق وجهت تهديدات متكررة بالتدخل العسكري المباشر في حال وقوع كارثة إنسانية أو هجوم كيميائي من قبل الجيش السوري.
ووفقاً لبعض وسائل الإعلام الأمريكية، فقد قام خبراء ومسؤولون عسكريون في هذا البلد بوضع قائمة أهداف في سوريا منذ الآن، لمهاجمتها بعد اتهام الجيش السوري مرةً أخرى باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه وكذلك ضد ما يسمى بـ "المعارضة السورية المعتدلة".
وفي هذا الصدد أعلنت البحرية الأمريكية في الأيام الماضية أن "غواصة Navy Vessels" وبعد اجتياز مضيق جبل الطارق، تبحر نحو البحر الأبيض المتوسط للانضمام إلى أسطول الغواصات والسفن الحربية الأمريكية، وبجانب هذه الغواصة، هناك غواصتان مع بارجتين حربيتين تحملان صواريخ "توم هوك" الذكية، من المقرر أن تصل إلى البحر الأبيض المتوسط، وتتمركز بالقرب من المياه السورية، وفي وقت سابق من هذا الأسبوع دخلت غواصة "ترافالغار" البريطانية البحر الأبيض المتوسط، لاستعداد القوات الغربية لمهاجمة الحكومة السورية في حال حدوث هجوم كيماوي مزعوم في إدلب.
لم تكن للهجمات الغربية السابقة على سوريا، مثل الهجمات الصاروخية في إبريل 2018، القدرة على تغيير المعادلات، والآن مع تزايد إضعاف الإرهابيين وسيطرة الجيش السوري على أجزاء كبيرة من البلاد، لن يساعد الهجوم الغربي الإرهابيين والمسلحين المهزومين ومؤيديهم الدوليين، بل يمكنها فقط إطالة أمد عملية إدلب، وتفاقم تدهور الوضع، ومنع انتهاء الأزمة أخيراً.
تركيا على مفترق طرق
لقد تعارضت مصالح ورغبات تركيا في قضية إدلب مع قضايا أكثر عموميةً، بما في ذلك الحفاظ على الدور التركي المؤثر في المعادلات السورية المستقبلية، بعد تحوُّل أردوغان نحو التعاون مع المحور الإيراني الروسي من خلال آليات أستانا وسوتشي، في الواقع، تركيا تقع الآن على مفترق طرق بين استمرار دعم الجماعات المسلحة الحليفة لأنقرة فضلاً عن وجودها العسكري شمال سوريا، أو استمرار عملية التعاون مع محور طهران - موسكو في ظل زيادة التوتر مع الغرب، من ناحية أخرى فإن أنقرة التي تستضيف الآن حوالي 3 ملايين لاجئ سوري في وضع اقتصادي غير موات، تخشى بدء عملية إدلب وعلى الأرجح هروب عدد كبير من الإرهابيين الأجانب مع عائلاتهم من المحافظة إلى الحدود التركية، بالإضافة إلى التهديدات الأمنية، لأنها ستشهد موجةً أخرى من اللاجئين.
من هنا، بعد قمة طهران بحضور رؤساء إيران وروسيا وتركيا، والتي تمحورت حول قضية إدلب، أعلن أردوغان عبر رسالة في الشبكات الاجتماعية: "لا يمكننا أن نشارك أو نتفرج على لعبة ستصبّ في مصلحة نظام بشار الأسد"، وبعد هذه التصريحات، تحدثت الأنباء عن نقل المعدات العسكرية التركية إلى الحدود السورية، فأردوغان يؤكد أن التخلي عن إدلب سيجعل الأكراد يشكّلون تهديداً لأمن أنقرة مرةً أخرى.
ولكن من ناحية أخرى، يعرف أردوغان جيداً أن مقاومة عملية إدلب، بالإضافة إلى ضرب عملية التعاون مع إيران وروسيا، لا تتمتع بشرعية دولية وقانونية، لأن الحكومة السورية تؤكد دائماً أن العملية التركية على أراضيها تتسم بالعدوانية، وعلى الرغم من أن أردوغان لا يريد أن تبدأ عملية إدلب، لكنه في نفس الوقت قد اتفق مع إيران وروسيا في اجتماع طهران، بضرورة القضاء على الجماعات الإرهابية التي حددتها الأمم المتحدة، وكذلك الحفاظ على سلامة سوريا.
التحذير الروسي، واستعداد محور المقاومة للرّد على العدوان
تأتي التهديدات والمعارضات لانطلاق عملية تحرير إدلب، في وقت تصرّ فيه سوريا وحلفاؤها أي موسكو وطهران، على بدء القضاء على الإرهاب، إذ إن استمرار الوضع المتأزم في سوريا سيمنح الدول الغربية وحلفاءهم الإقليميين مثل السعودية وغيرها التدخل في هذا البلد أكثر من أي وقت مضى، وتدمير موارده وبناه التحتية، الأمر الذي سيفيد الكيان الإسرائيلي بالتأكيد، لهذا السبب تصرّ سوريا وحلفاؤها على ضرورة حل قضية إدلب بأي ثمن كان، ولا تستطيع الدول المعارضة القيام بأي شيء باستثناء خلق سلسلة من التحديات أو عمليات محدودة وغير فعالة.
لذلك، وبالنظر إلى الذرائع التي تخلق لمنع تحرير إدلب ونهاية الأزمة في سوريا، إلى جانب تهديدات وتحركات أمريكا وحلفائها، تجري موسكو أكبر مناورة عسكرية بمشاركة أسطولها البحري وقواتها الجوية في البحر المتوسط بالنظر إلى الوضع الصعب في محافظة إدلب، وهو إجراء يُتخذ لمنع أمريكا وحلفائها من غزو سوريا.
ولكن على الرغم من هذا الموقف المتشدد حيال الذرائع الغربية، تواصل روسيا وإيران السعي للتعاون مع تركيا، لأنه بالإضافة إلى الأزمة السورية، فإن توسيع التعاون الاقتصادي (وحتى العسكري)، يكتسب أهميةً كبرى للتعامل مع العقوبات الأمريكية التي تستهدف البلدان الثلاثة. لذلك نرى اقتراحات من قبل طهران وموسكو إلى أنقرة مثل إنشاء ممرات آمنة لخروج المدنيين من إدلب إلى مناطق أخرى، بالإضافة إلى التأكيد على سلامة سوريا والتسريع في توفير الظروف الملائمة لعودة اللاجئين، وفي النهاية يجب القول إن هذه الظروف قد جعلت وضع إدلب شديد التعقيد في الوقت الحالي.