الوقت- شكّلت المباركة السعودية السريعة للجانب العراقي بانتصار تلعفر مفاجئة لدى الكثيرين.
وبدت الرياض في رسالة التهنئة التي أكّدت فيها وقوف المملكة "بكامل إمكانياتها إلى جانب جمهورية العراق الشقيقة لمحاربة الإرهاب والتطرف حتى يتم القضاء عليه"، بدت وكأنها تسابق الزمن في الحصول على لقب أوّل دولة تهنّئ العراق بالانتصار الساحق على تنظيم داعش الإرهابي.
التقارب السعودي الذي بدأ مع زيارة الجبير قبل ستّة أشهر، كانت أول زيارة لوزير خارجية سعودي منذ نحو 14عامًا، أسّس لمرحلة جديدة في العلاقات مع بغداد، ليلي الجبير رئيس أركان الجيش السعودي الفريق أول ركن عبد الرحمن بن صالح، وينتهي المشهد المشترك من الجانب السعودي بنفس إعلامي داعم للعراق، بعد سنوات من التهجّم، خلص إلى المباركة المبكرة في انتصار تلعفر. في المقابل، رسّخ العراق سياسته الانفتاحيّة على الجميع، بما فيهم السعوديّة التي تورّطت بدماء العراقيين بين عامي 2003 و2017، ليتوجّه رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي الرياض في يونيو الماضي، ويليه زيارة وزير الداخلية قاسم الأعرجي، ولاحقاً الزيارة المثيرة للجدل لزعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر في 30 من يوليو.
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم: ما هي أهداف الرياض من هذا التودد لبغداد في الوقت الحالي؟ هذا السؤال كان عنواناً للعديد من الصحف الإقليمية والعالمية، من ضمنها مجلة "فورين آفيرز" الأمريكية التي تفاجأت بالانفتاح السعودي على الحكومة العراقية وقيادات شيعية كبرى بالبلاد.
إن الإجابة على هذا السؤال بموضوعيّة ودقّة تعدّ مفتاحاً لرفع الضباب القائم على الأهداف الحقيقة للتقارب السعودي مع العراق، ومدى جدّيته، وفي هذا السياق لا بدّ من الإشارة إلى جملة من النقاط:
أوّلاً: جاء التقارب السعودي مع العراق متأخّراً جدّاً، وذلك بعد أن لاح في الأفق انتصار الموصل الذي يؤسس لقضاء على داعش في العراق، وبالتالي استعادة الأخير لدوره الإقليمي الفاعل. تعتمد الرياض، وفي ظل التصدّع الخليجي، رؤية مغايرة عن مشروعها السابق تجاه العراق ستستخدم خلالها استراتيجيات وأدوات جديدة تهدف لإعادة العراق إلى الحظيرة العربية ودعمه من قبل شركائه وأشقائه الودودين، وفق وزير الدولة السعودي السابق سعد الجابري. الرؤية السعودية الجديدة تتماهى مع المشروع الأمريكي تجاه العراق. ففي حيت تمسك واشنطن بقرار كردستان مع الإبقاء على دور لها في بغداد، تسعى السعوديّة للإمساك بالقرار السنّي العراقي، وبالتالي إضعاف المشهد العراقي عبر تقسيمه. من هنا من غير المستبعد دعم السعوديّة لإيجاد إقليم سنّي عراقي خلال السنوات القادمة، فتحسن العلاقات يأتي قبيل الانتخابات البرلمانية العراقية لعام 2018، كما أن المباحثات الأخيرة أثارت احتمالية وجود دورٍ سني سياسي هام بالمشهد العراقي في مرحلة ما بعد تنظيم داعش، وفق مجلة "فورين آفيرز" الأمريكية.
ثانياً: جغرافياً، حاولت السعوديّة ترجمة التقارب الأخير مع العراق عبر فتح منفذ "جديدة عرعر" الحدودي بشكل رسمي ودائم بعد إغلاق دام 27 عامًا. المعبر الرسمي المعتمد بين البلدين منذ أكثر من 50 عامًا حتى إغلاقه عام 1991 ( حرب الخليج الثانية) والذي اقتصر عمله خلال السنوات الماضية في تسهيل دخول الحجاج العراقيين كل عام سيكون منفذاً لتعزيز العلاقات الاقتصاديّة بين البلدين بما يخدم الأجندة السياسيّة السعوديّة على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. تتحدّث صحيفة العربي الجديد في تقرير لها عن الواقع الجديد لخريطة العلاقات الاقتصادية التي فرضتها التداعيات السياسية التي مرت بها المنطقة العربية مؤخرًا، عن ضخّ محمد بن سلمان، استثمارات سعودية في العراق، وخاصة في الجنوب. لماذا الجنوب؟ لأنه باعتقاد السعوديّة ستنجح في اللعب على الوتر العروبي هناك، باعتبار أن هذه المنطقة تعدّ خزاناً للقوميين العرب. ولا نعتقد هنا أن العراقيين بعربهم وأكرادهم وتركمانهم يرحّبون بأي دور سعودي نظراً للدور الذي لعبته الأخيرة منذ احتلال العراق عام 2003 وحتى ما قبل تحرير تلّعفر بالأمس.
ثالثاً: في حين يرى جيفورغ مارزايات، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الاقتصادية للحكومة الروسية، أن السر وراء التقارب يكمن في أنّ السعودية تأمل بتقاربها مع العراق أن تحد من دور ايران الإقليمي، تعلّق صحيفة "الغارديان" البريطانية على مساعي الرياض للتقارب مع بغداد في الآونة الأخيرة بالقول: إن المشاركة في إعادة إعمار العراق ستكون الاستراتيجية الأبرز لدى الرياض للعودة للمشهد العراقي مجددًا، وإيجاد موضع قدم لها هناك بعد سنوات طويلة من برودة العلاقات. ولعل حاجة العراق إلى هذا الدعم في هذه المرحلة تحديداً دفعته لأن يُبقي الباب مورباً حيث يوضح رئيس لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان العراقي عبد الباري الزيباري أن الإسهام في إعادة الإعمار باب جيد لعودة العلاقات السعودية العراقية.
في الحقيقة، ورغم أن الرياض تسعى لإظهار حسن نواياها تجاه العراق، إلا أن التصرّف السعودي، الذي يتماهى بشكل أو بآخر مع الموقف الأمريكي، يعدّ تكتيكياً، ويأتي خدمةً لمشاريع استراتيجية سعودية تهدف لإيجاد حالة من عدم الاستقرار في الداخل العراقي وقد يكون التقسيم أحد أبرز مقوّماته. السعوديّة ستبدأ اليوم بتبييض صفحتها مع العراق، التهنئة بانتصار تلعفرمصداق بارز، بغية إيجاد أرضية مناسبة لمشاريعها اللاحقة، لأن العراق القوي والديمقراطي يشكّل تهديداً للممالك والمشيخات التي لا تعرف معناها.