الوقت- منذ تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949م كان من الواضح أن هذه المنظمة إنما أنشئت لتخدم بالأساس مصالح الدول الكبرى مستفيدة من إمكانات الحلف ككل. فكانت قاعدة 90/10 أي أن 10% من أعضائه ينجزون 90% من مهامه ووجود 90% من الأعضاء إنما لإعطاء الشرعية والسلطة المطلقة للـ10% الباقية.
هذه المعادلة بدأت تتقلص رويدا رويدا لتقل نسبة الـ10% فتُختصر بأمريكا وحدها، فتصبح اللاعب الملك الذي يسعى الجميع لتحقيق مصلحته. أكثر من ذلك اتخذت أمريكا استراتيجية الحليف الملك الذي يتجاهل الناتو حين تقتضي مصلحته ويعود ليصبح عضوا فعالا حين تقتضي المرحلة. ومن خلال المرور التاريخي يتبين أن هذه الاستراتيجية الأمريكية اتجاه الناتو قد تبلورت بشكل واضح وصريح بعيد اعتداءات 11 أيلول سبتمبر 2001م حين قررت غزو العراق بمعزل عن الناتو.
ما حصل في العراق أكد وجود خلافات حادة بين الأعضاء الكبار، حيث خاض بوش الإبن في حينها حربا على العراق دون طلب التدخل من الناتو فدعمته كل من بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا، بينما رفضت كل من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا (مقر الناتو) هذه الحرب بشكل قاطع. وكانت تلك المرحلة نقطة تحول كبيرة في العلاقات بين اللاعبين الكبار لا زالت تداعياتها ملموسة إلى اليوم.
اجتماع قمة الناتو الأخير في 25 أيار مايو الفائت أكد تجذر الخلافات بين الدول الأعضاء، حيث كان موضوع "الانفاق الدفاعي" والطلب الأمريكي بزيادة الدول العضو من مساهماتها محل نقاش وجدال واسع خلق نوعا من التوتر ووضع مزيدا من الأسافين بين الدول الأعضاء. وهذه النقاشات أكّدت أن الدول العضو باتت تفضل اتباع استراتيجية تعزيز قدراتها العسكرية والدفاعية بشكل داخلي منفصل عن الناتو ككل. وبات الحلف الهرم يقتصر على لقاءات وتصريحات خالية من أي محتوى جدّي.
طبعا لهذا الأمر أسبابه الكثيرة وليست سياسة أمريكا اتجاه الناتو هي الوحيدة التي أدت لهذا الأمر. بل إن الخلافات التي تعصف بين بعض الحلفاء تعزز هذا التوجه وليس الخلاف الألماني التركي وما وصلت إليه الأمور بين الطرفين إلا آخر حلقات الصراع المستعر بين الكثيرين.
الخلاف التركي الألماني اليوم تحول إلى خلاف عام بين الناتو وتركيا، وقد وصلت الأمور إلى مرحلة إخراج الألمان جنودهم من قاعدة أنجرليك التركية ونقلهم إلى الأردن في مؤشر يؤكد مستوى التدهور التي وصلت إليها الأمور.
من الخلافات المهمة جدا والتي كان لها أثرها أيضا على العلاقات فيما بين الأعضاء الخلاف حول طبيعة الموقف من روسيا، حيث هناك معسكرين داخل الناتو أحدهما يدعو للتشدد في الموقف مع الروسي ومنها دول شرق أوروبا التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفييتي سابقا، ومعسكر يدعو للتهدئة كدول غرب أوروبا التي تعتبر معاداة روسيا أمرا غير عقلانيا لأسباب اقتصادية وسياسية كثيرة ومنها فرنسا وألمانيا.
ما جرى خلال الأزمة الأوكرانية وضم روسيا القرم إلى أراضيها والتخبط في الموقف اتجاه موسكو يؤكد هذا الأمر، وقرار العقوبات الأمريكية على روسيا مؤخرا والرفض الأوروبي الألماني له يعزز هذا الخلاف في الموقف من روسيا.
الخلاف التركي اليوناني أيضا واحد من الأمثلة القديمة الجديدة التي تؤكد وجود صراعات أساسية بين الأعضاء، صراعات لا يمكن إلا أن تؤثر سلبا على قرارات الناتو حول مختلف الملفات.
فرنسا وألمانيا لهما استراتيجيتهما الخاصة اليوم بخصوص الأزمات ونقاط التوتر في العالم. ومن الواضح أن كلا البلدين يسعيان للخروج من العباءة الأمريكية عبر رفض السياسات الأمريكية التي لا تتوافق مع المصالح الاقتصادية والسياسية والأمنية الأوروبية. طبعا فرنسا ومنذ ستينيات القرن الماضي وأثناء فترة حكم شارل ديغول كان توجهها عدم الخضوع للهيمنة الأمريكية، فديغول كان يرى في حلف الناتو أداة لتحقيق المصالح الأمريكية. وقد رفض أن يكون قرار القوات المسلحة الأمريكية خاضعا للحلف أو لأي دولة أخرى.
إذا باتت الخلافات فيما بين أعضاء حلف الناتو أكثر من المصالح المشتركة، وحقيقة أن هذا الحلف يهدف لتحقيق مصالح دول دون أخرى أصبحت متجذّرة أكثر من أي وقت سابق. لذلك فإن مستقبل هذا الحلف بات في خطر حقيقي يتهدده. وفي أحسن الظروف سيكون مستقبله حلفا سياسيا لتبادل المواقف والرؤى، ومنبرا إعلاميا لإطلاق شعارات ولىّ الزمن على الكثير منها.