الوقت - فيدان، الذي ينعته كثيرون بـ"مهندس السياسة الخارجية الترکية في العهد الحالي"، لم يُمنح هذا اللقب مدحًا لسماته الشخصية، بل وُضع له إحقاقًا لتغييرٍ جوهري طال جوهر العقيدة السياسية التركية؛ حيث لم تعُد وزارة الخارجية مركز الثقل كما كانت، بل انتقلت القيادة إلى نموذجٍ جديد يتكئ على الاستخبارات، ويزاوج بين الأمن والميدان والتفاوض، جامعًا بين الفعل والمعلومة، بين الحركة والكتمان.
ثلاثة عشر عامًا قضاها فيدان على رأس جهاز الاستخبارات الوطنية التركية (MIT)، قبل أن يُنصب وزيرًا للخارجية، فجاء انتقاله من السرّ إلى العلن حاملًا عقيدةً جديدةً، ترى السياسة الخارجية ساحةً استباقيةً متعددة المسارات، تستقرّ في فضاءٍ متعدد الأقطاب، وتحتكم إلى منطق الردع والاندفاع معًا.
وفق هذه الرؤية، لم تعُد السياسة الخارجية مجرد وسيلة لتدبير العلاقات بين الدول، بل أضحت أداةً لتعطيل الخطر عند الحدود، وتحريك لوحة الإقليم بما يخدم مصالح الداخل، وصناعة أوراق التفاوض مع القوى الكبرى عند موائد المساومة.
فمسيرة فيدان خير شاهد على هذا التحوّل؛ فقد تخرّج من مدراس الاستخبارات العسكرية، وتلقى علوم الاتصالات والرموز واللغات، حيث تتحوّل الكلمات إلى شفرة، نال تحصيله الأكاديمي رفقة بعثات الناتو، ودرس السياسة والإدارة في جامعة ميريلاند الأمريكية، قبل أن يرتقي في سُلّم الدراسات حتى بلغ درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة بيلكنت، ودرّس في جامعاتها وجامعة حاجت تبه، جامعًا بين خُبرة العسكر، وفهم العقل الغربي، ولسان الدبلوماسية الرفيعة.
هذا المزيج النادر مكّنه من قراءة الميدان بعين رجل الأمن، وصياغة الخطاب بالمنطق الأكاديمي؛ فهو يُحسن تحويل التهديد إلى ملفٍ تشغيلي، ثم يقدّمه في قالبٍ ينطوي على عناصر الإقناع والشرعية.
لم يكن صعوده من هامش التقنية إلى قلب القرار وليد صدفة، بل خُطط له عبر محطات دقيقة: فتولّيه قيادة وكالة التعاون والتنسيق التركية (TİKA) لم يكن مجرّد منصب تنموي، بل نواة لتشكيل شبكات النفوذ خارج الحدود، حيث تندمج السياسة بالاقتصاد، ويتشابك التعاون بالتأثير الثقافي، ثم انتقل ليشغل مواقع حساسة في قلب السلطة التنفيذية، مستشارًا للأمن والسياسة الخارجية، عضوًا في مجلس إدارة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ومبعوثًا خاصًا لرئاسة الحكومة، ثم لرئاسة الدولة ذاتها.
وحين اعتلى سدة الاستخبارات، بات في صلب الملفات حيث تذوب الحدود بين العمل الميداني والقرار السياسي، وصار اسمه قرين الحوار السري والوساطة الغامضة والسيطرة الناعمة، وارتسمت على يديه ملامح سياسة خارجية مُعاد تعريفها، تُجيد المناورة في جغرافيا مضطربة كالمشرق، وتُمسك بخيوط اللعبة بين تفاهمات الغرف المغلقة، ومجابهات الفاعلين المتنازعين.
من رحم هذه الخبرة، تخرج ملامح مدرسة فيدان الخاصة، وفيها أولًا: نظرة “الجوَار المُهدِّد”، التي ترى أن أمن سوريا والعراق لا ينفصل عن عمق تركيا الداخلي، فسوريا ليست ساحةً مفتوحةً بل خندقٌ متصل بأمن الداخل؛ من ملف اللاجئين، إلى تهريب السلاح، إلى صعود كيانات مسلّحة بمظهرٍ مدني، كـ"PKK" وسواها، وكلّها تضع استقرار الداخل التركي على المحك، وكذلك العراق، المتقاطع مع أنابيب الطاقة وصراعات النفوذ، هو امتداد لهذه الرؤية الأمنية الواقعية.
وثانيًا: تصدَّر مبدأ خفض التوتر الإقليمي سلّم الأولويات، لا بإيمان رومانسي بالسلام الموهوم، بل كوسيلة لتقليص المخاطر على الحدود، وتوسيع فسحة المناورة الاقتصادية والسياسية، وهو خفضٌ لا يتعارض مع نهج الحسم الأمني، فتركيا – وفق رواية فيدان – قادرة على الجمع بين القوة واللين، فتوجّه رسائل صلبة في حربها مع “PKK”، وتفتح آفاق التعاون مع دول الجوار لتخفيض تكاليف المواجهة طويلة الأمد.
والطبقة الثالثة من خطاب هاكان فيدان تستبطن بُعدًا أيديولوجيًا عميقًا، يتجلّى في استعارات إنسانوية وتحرّرية، يُغلف بها مواقفه من قضايا كبرى كالملف السوري أو الصراع مع الكيان الصهيوني، هذه اللغة، وإن بدت ناعمةً في ظاهرها، إلا أنها تؤدي وظيفتين محوريتين؛ الأولى: منح السياسة التركية غطاءً أخلاقيًا لتبرير تدخلاتها الميدانية في المشرق العربي، والثانية: تكريس موقع أنقرة كفاعل يتحمّل “رسالة تاريخية” في جسد الأمة الإسلامية، ولذلك، لا يسعى فيدان لأن تكون تركيا مجرد لاعب إقليمي، بل أشبه بمحرّك مركزي، يضبط إيقاع الأزمات، ويؤسس لمرجعية قيادية في بحر التشتت الإسلامي.
ولعل تجليات هذا المسعى تتبدى في موقفه من قضية غزة، حين يتحدث عن ضرورة انتشار قوات تركية في الميدان، في سعيٍ حثيث لإنضاج فكرة تحويل القضية الفلسطينية إلى منصّة للشرعية الاستراتيجية، لا مجرد ملف إنساني، وتجلّى ذلك أيضًا حين سُئل عن نزع سلاح “حماس”، فأجاب بأن المسألة ليست أولويةً.
أما الملفات التي تتجسد فيها “العقلية الفيدانية”، فهي تتوزع بين السياسية والأمنية، لكنها في جوهرها متشابكة حتى يصعب فصلها، ففي الملف الكردي، مرت أنقرة بمرحلة اتّسمت باستبدال الحل العسكري المحض بخيار الحوار السري وإدارة الأزمات، حتى حين فشلت تلك الجهود، بقيت التجربة دالةً على أن جهاز الاستخبارات يمكن أن يلعب أدوارًا دبلوماسية مكملة.
وفي سوريا، اتخذت السياسة التركية مسارًا مزدوج اللفظ والمعنى، يجمع بين دعم الفاعلين الميدانيين الحلفاء، وبين الاهتمام الحاد بالتركيبة الكردية في الشمال، حيث يتعاظم القلق من كيان كـ"قسد" واحتمال تحوّله إلى واقع حدودي دائم، يُهدّد بتصدير عدم الاستقرار.
أما في العراق، فالمعادلة تدور حول مثلث معقّد الأضلاع: أمن الحدود، مكافحة الإرهاب، وملف الطاقة والتجارة، الأمر الذي دفع أنقرة إلى انتهاج دبلوماسية أكثر كثافةً وتداخلاً تجاه بغداد والفاعلين الإقليميين.
وعلى نطاق أوسع، برز نمط دبلوماسي جديد، قائم على منهج الاستخبارات السياسية، يمتدّ عبر قنوات غير معلنة، وصفقات متدرجة، وتحركات محسوبة، حتى غدا هذا النموذج أداةً رئيسةً من أدوات السياسة الخارجية، ولا سيما في يد رجلٍ خبر مفاهيم الأمن وفنون الاقتراب الهادئ من محاور الشدّ الإقليمي.
أما قضية قبرص، فلا تزال موضع شدّ هويّاتي وسياسي بالغ الأهمية، حيث تصرّ تركيا على رؤية ترتكز إلى “حلّ الدولتين”، وترفض الإملاءات اليونانية والإجراءات الأحادية لحكومة نيقوسيا، وفي ظل التعاون المتنامي بين الكيان الصهيوني وكلٍّ من قبرص واليونان، من المتوقع أن يضطلع فيدان بدور أكثر فعاليةً في هذا الملف، متجاوزًا خطوط التهدئة التقليدية نحو هندسة جديدة للميزان الإقليمي.
ووسط هذا المشهد، تتوالی الأسئلة عن طبيعة العلاقة بين فيدان والرئيس رجب طيب أردوغان، وهي علاقة أقل ما يُقال عنها إنها تثير التساؤل، فهل تحوّل نفوذ فيدان إلى ما يُقلق رأس الهرم؟ البعض يرى في فاعليته المتنامية عنصرًا مثيرًا للخشية داخل نخبة السلطة، وربما لدى أردوغان نفسه، لكن الأقرب للواقع هو أن العلاقة بينهما تعبّر عن تناغم استراتيجي، لا صراع خفي.
فيدان ما كان ليصعد إلى ذروة مفاصل القرار دون دعم مباشر من أردوغان، وفي المقابل، بات فيدان الركن الوثيق الذي يُعوَّل عليه في إدارة الملفات الأمنية الحساسة، بوصفه رجل الظلّ وصانع التنفيذ.
من حيث الرؤية، كلا الرجلين يشتركان في قناعة راسخة بأن على تركيا أن تتحرّر من أسر التبعية الغربية، وتقتحم مسرح الفعل العالمي بوصفها قوةً تطالب وتؤثر، لكنها تختلف في توظيف الوسائل: فأردوغان ينظر إلى السياسة الخارجية بعدسة الداخل، ويتقن استخدام الرمز والمواجهة الإعلامية في تعبئة الرأي العام، بينما فيدان أكثر تحفظًا ودقةً، مهندس أدوات، لا خطيب منابر، لا يُكثر من التصريحات، وإذا تكلّم فعل ذلك بوزن ورصيد.
هذا التمايز التكتيكي يجعل من فيدان أقدر على التفكير في خفض التوترات، دون أن يبتعد عن الإطار الأيديولوجي العام للدولة، فلا يخرج عن ثوابت القضية، بل يدير أدواتها بدهاء، ويختار لحظته بدقة، إذًا، فلو وُجد اختلاف، فليس في الأهداف الكبرى، بل في أولويات التحرك وتوقيت المجازفة.
في نهاية المطاف، فيدان هو صورة تركيا التي تريد أن تكون – في الوقت ذاته – دولة أمنية محنّكة، وفاعلًا هويّاتيًا بارزًا في فضاء الأمة الإسلامية، وهذا التركيب المزدوج يمنحها قدرةً على المناورة الآنية، لكنه يحمل بذور تناقضات قد تتفجر مع امتداد الزمن: فكلما رفعت أنقرة رايات الزعامة الروحية، وحمّلت خطابها لهجة مضادة للصهيونية، ازداد صراعها مع الغرب، وتوترت علاقاتها بالتحالفات التقليدية، وكلما شدّدت قبضتها في سوريا لكبح نفوذ طهران أو بغداد، غاصت أكثر فأكثر في رمال المنافسة الجيوسياسية.
وهكذا، تُوشك السياسة الخارجية التركية أن تنزلق – بفعل ذلك كله – إلى مسارٍ يغلب عليه الطابع الأمني المبالغ فيه، ما يطرح سؤالًا بالغ الخطورة: إلى متى يمكن لفيدان أن يُدير هذه المغامرة الدقيقة؟ ومن الذي سيوقف اندفاعته في نهاية المطاف؛ هل هم شركاء الداخل أم أعداء الخارج؟
