الوقت- في قلب الدمار الذي خلّفته حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، وبين صرخات الفقد وأصوات الانفجارات التي لم يغادر صداها أرواح السكان بعد، تحاول مجموعة من الفتيات اليافعات صناعة أمل صغير، مساحة تنبت فيها الحياة من جديد، ولو على هيئة ورقة مُلوّنة أو وردة مصنوعة من بقايا ورقية.
في خيمة بسيطة بمدينة دير البلح وسط القطاع، تتجمّع فتيات تتراوح أعمارهن بين 13 و18 عاماً ضمن مشروع يحمل اسم "أصوات الغد"؛ مبادرة فنية-نفسية تستهدف تفريغ الصدمات وتحويلها إلى طاقة إبداعية.
رغم الفقر والحصار وانعدام الموارد، تصرّ الفتيات على ممارسة أنشطة فنية تساعدهن على ترميم أرواحهن التي أتعبها القصف والنزوح وفقد الأحبة. داخل الخيمة، تفترش بعض الفتيات الأرض بألوان متواضعة ليرسمن ما يحتل ذاكرتهن: طيور تحلّق، بيوت كانت، شمس تُشرق على بحر غزة. أخريات يكتبن خواطر تتسرب منها الدموع أكثر من الحبر، فيما تمارس مجموعة ثالثة إعادة تدوير مواد مهملة لصناعة الورود والحِرف اليدوية والنقش، كنوع من التحدي لواقع لا يمنحهن إلا الرماد.
الفن بديلاً عن الصراخ
تقول رهف الشيخ علي، مؤسسة نادي "أصوات الغد"، إن الفكرة ولدت من حاجة حقيقية لمساحات آمنة تستطيع الفتيات من خلالها التعبير عن ذواتهن بعيداً عن أجواء الخوف والضيق داخل المخيمات. وتضيف:
"نطمح إلى توفير نشاطات فنية واجتماعية وحوارية للفتيات اليافعات. ركزنا على فن التدوين البصري كوسيلة لتفريغ مشاعرهن المكبوتة، إلى جانب الرسم وهوايات أخرى، ونعمل على تقوية شخصياتهن ودعمهن نفسياً في هذه المرحلة الحساسة."
لكن الطريق ليس سهلاً، فالمشروع يعاني من نقص حاد في المواد الخام والأدوات الفنية بسبب الحصار الإسرائيلي ومنع دخول المستلزمات، وإن وُجدت في السوق فإن أسعارها تكون مرتفعة، وهو ما يضع القائمات على المشروع أمام تحدٍّ يومي للاستمرار.
تؤكد رهف أن عدد الراغبات في الانضمام يفوق قدرة الخيمة الصغيرة على الاستيعاب، وأن الطموح القادم هو إنشاء مساحات فنية أكبر في القطاع ليتمكن المزيد من الفتيات من المشاركة. وتتابع:
"هناك عطش كبير لدى الفتيات لأنشطة تعبيرية تخفف عنهن آثار الحرب. نرى في وجوههن بعد كل ورشة بصيص حياة يعود من جديد."
شهادات تروي ما لا يقوله الجسد
من بين المشاركات، تقف مرح الشيخ علي لتروي قصتها بصوت متردد يخفي وجعاً أكبر من عمرها:
"التحقت بالنادي كي نظهر مواهبنا التي دُفنت بسبب الحرب. هنا نعيد إحياء جزء من شخصيتنا، فالحرب طمست الكثير من صفاتنا الجميلة ودفنت الإبداع داخلنا."
وتشرح مرح كيف منحها الفن متنفساً مختلفاً: مكاناً تستطيع فيه الإمساك بقلم لا ببقايا قذيفة، ومكاناً يمكنها أن تحلم فيه دون خوف. تقول:
"شعب غزة يمتلك إبداعاً يستحق الحياة. نحن نرسم لأننا نريد أن نقول إننا هنا، ما زلنا على قيد الأمل."
أما جنى كراز، فتاة أخرى تحمل على كتفيها أثقل أنواع الفقد بعد أن خسرت أختها الوحيدة في الحرب، فوجدت في هذا المشروع ملاذاً من الحزن. توضح جنى:
"فقدان أختي كان صفعة قاسية. هذا المكان يمنحني بيئة آمنة لأكتب وأرسم ما بداخلي. أشعر أنني أتنفس هنا بعد انقطاع طويل."
هذه الشهادات ليست مجرد كلمات؛ هي أثر حيّ للصدمة ومحاولة شجاعة للنجاة منها. فنون بسيطة تحولت إلى علاج نفسي غير رسمي يُعيد للفتيات القدرة على الحلم، ولو قليلاً.
جراح مفتوحة وحرب لم تنتهِ
انتهت الحرب رسمياً في 10 أكتوبر الماضي، لكنها لم تنتهِ فعلياً في قلوب سكان غزة. فالجدران التي تهدمت يمكن إعادة بنائها، أما الأطفال الذين فقدوا أطرافهم أو ذويهم فليس من سهل تعويض ما فقدوه. تشير بيانات الجهات الصحية في غزة إلى استشهاد أكثر من 70 ألف فلسطيني، بينهم ما يزيد عن 20 ألف طفل، في واحدة من أكثر الحروب دموية في التاريخ الحديث، بينما فقد مئات الآلاف من الأطفال حواسهم أو بُترت أطرافهم أو تُركوا بلا مأوى.
ومن بين الضحايا 1015 طفلاً لم يبلغوا عامهم الأول و450 رضيعاً، أما البقية فيتوزعون بين من توفي تحت الركام ومن مات جوعاً أو برداً أو عطشاً أو أثناء النزوح. بل إن 14 طفلاً قضوا من شدة البرد داخل الخيام المهترئة التي لم تتمكن من حمايتهم من الشتاء.
هذه الأرقام القاسية تُبرز مدى أهمية مثل "أصوات الغد"، التي لا تعطي الأطفال غذاءً أو دواءً فحسب، وإنما تمنحهم حقاً آخر من حقوقهم الإنسانية: الحق في التعبير والعيش بكرامة.
منظمة الصحة العالمية: التعافي يحتاج وقتاً
المدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبريسوس كتب في تدوينة على منصة "إكس" أن تعافي أطفال غزة بعد الحرب سيحتاج زمناً طويلاً، موضحاً أن وقف إطلاق النار أعطى الأطفال فرصة للتنفس واللعب، وربما بدء التعافي بعد عامين من العنف المستمر. تصريحات غيبريسوس تتقاطع مع واقع الفتيات داخل الخيمة؛ فالتعافي النفسي ليس قراراً يُتخذ، بل عملية طويلة تحتاج دعماً مستمراً وبيئة آمنة.
الفن.. مقاومة من نوع آخر
قد تبدو الألوان بسيطة، لكن في غزة تتحول إلى سلاح مقاومة غير مسلّح. اللوحات لا تعكس فقط المعاناة، بل تصور أحلام مستقبل مختلف: طائرة ورقية في السماء، بيت بلا فجوات، بحر بلا بوارج. كل رسمة هي رسالة بأن الفلسطينيين لم يفقدوا إنسانيتهم رغم كل ما واجهوه.
المشروع يمثل نموذجاً مصغراً لما يمكن أن تفعله المبادرات المجتمعية في ظل غياب الدعم الرسمي والظروف الإنسانية الصعبة. إنه إثبات أن الإعمار قد يبدأ من ورقة وألوان، قبل أن يبدأ من الاسمنت والحديد.
مستقبل ينتظر الدعم
تأمل القائمات على "أصوات الغد" في توسيع المشروع ليشمل مناطق أخرى من القطاع، وتوفير جلسات علاج بالفن، ودورات تطوير شخصية، ومساحات للقراءة والنقاش. فالفتيات بحاجة إلى ما يعيد إليهن الثقة في الحياة، وإلى أن يسمع العالم أصواتهن قبل أن يطغى صوت الحرب مرة أخرى.
في المشهد الفلسطيني المليء بالدم والجراح، تبدو هذه الخيمة الصغيرة جزيرة حياة في بحر من الألم. ربما لا تغير مجرى الحرب، لكنها تغيّر حياة فتاة تعلّمت كيف تحوّل الحطام إلى وردة. وربما لا تزيل الصدمة، لكنها تمنح فرصة لبدء الشفاء.
إنها قصة جيل لم يُمنح طفولته كاملة، لكنه يحاول أن يصنع غده بيده. وفي غزة، ذلك وحده فعل مقاومة.
