الوقت- في تطور غير مسبوق يعمّق من حالة العزلة الدولية التي يواجهها الكيان الإسرائيلي منذ اندلاع حربه المدمرة على غزة قبل عامين، كشفت قناة عبرية أن موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية قررت رسميًا وقف التعامل مع أي طلبات قادمة من داخل الكيان الإسرائيلي، وهو ما مثّل صفعة قوية وغير متوقعة لتل أبيب، خاصة وأن الموسوعة تُعد إحدى أبرز المؤسسات العالمية ذات الحضور الرمزي والاعتباري في توثيق إنجازات الدول والأفراد.
وبحسب ما نشرته القناة "12" الإسرائيلية الخاصة، فإن جمعية إسرائيلية تُدعى "هبة الحياة" وهي منظمة طوعية تعمل على تشجيع التبرع بالكلى كانت قد تقدمت خلال السنوات الماضية بطلب رسمي للموسوعة من أجل تسجيل رقم قياسي يتعلق بعدد المتبرعين بالكلى داخل الكيان الإسرائيلي. وبحسب الجمعية فإن أكثر من 2000 متبرع إسرائيلي قاموا بالتبرع بكليتهم لإنقاذ مرضى آخرين، ما اعتبرته الجمعية "إنجازًا إنسانيًا يستحق التسجيل في موسوعة غينيس".
غير أن ما حدث لاحقًا كان صدمة غير مسبوقة؛ إذ أكدت القناة أن الجمعية دفعت مئات الدولارات ضمن رسوم التسجيل، كما نظمت حدثًا كبيرًا في القدس جمعت خلاله آلاف المشاركين لالتقاط صورة جماعية كان يفترض أن تُرسل كجزء من ملف التوثيق، لكن المفاجأة الكبرى كانت أن موسوعة غينيس رفضت التسجيل لأسباب قالت القناة إنها ذات خلفية سياسية.
رسالة بريد إلكتروني حاسمة
وبعد أشهر من المتابعة، تسلّمت الجمعية رسالة رسمية عبر البريد الإلكتروني من إدارة موسوعة غينيس، جاء فيها بشكل واضح أن المؤسسة لم تعد تتعامل مع أي طلبات تسجيل من داخل الكيان الإسرائيلي في الوقت الحالي. وتضيف القناة أن الرسالة لم تكشف عن الأسباب بشكل مباشر، غير أن التوقيت والسياق السياسي المرتبط بجرائم الحرب في غزة يضعان علامات استفهام كبيرة حول خلفية القرار.
تقول الحاخامة راحيل هابر رئيسة جمعية "هبة الحياة" في تصريح نقلته القناة:
"إن رفض تسجيل هذا الإنجاز الإسرائيلي غير مقبول، لقد قمنا بكل المتطلبات وقدّمنا الوثائق كاملة، ومن الظلم حرماننا من هذا الاعتراف".
ورغم محاولات الجمعية التواصل مع إدارة الموسوعة لمعرفة تفاصيل القرار أو إمكانية تغييره، فإن جميع الطلبات قوبلت بالصمت أو لم تلق ردًا حتى الآن، في مؤشر واضح على وجود قرار مُحكم وليس حالة إجرائية عابرة.
عزلة الكيان الإسرائيلي تتسع… والمقاطعة تنتقل إلى مستويات جديدة
اللافت في هذا الحدث أن موسوعة "غينيس" ليست جهة سياسية أو محكمة دولية أو منظمة حقوقية، بل مؤسسة معنية فقط بتوثيق الأرقام العالمية، ما يجعل قرار المقاطعة بمثابة مؤشر عميق على حجم التدهور في مكانة الكيان الإسرائيلي عالميًا. فحين تصل المقاطعة إلى دائرة رمزية ثقافية عالمية غير مرتبطة بالصراع مباشرة، فهذا يعني أن صورة تل أبيب تضررت إلى حدّ دفع مؤسسات دولية للتحفظ عن أي تعاون معها خشية التورط في جدل أخلاقي أو ضغط شعبي عالمي.
ويأتي القرار في ظل سياق دولي متوتر تجاه الكيان الإسرائيلي، حيث تزايدت الدعوات الحقوقية والإنسانية لمحاصرته ومقاطعته في مجالات متعددة، من بينها الرياضة والأكاديميا والفعاليات الفنية. كما شهدت عدة دول حول العالم مظاهرات تطالب بحظر تمثيل الكيان الإسرائيلي في مسابقات دولية، بينما ألغت جامعات عالمية التعاون الأكاديمي معه.
وفي سبتمبر الماضي، أقر رئيس حكومة الكيان الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لأول مرة بأن تل أبيب تواجه ما وصفه بـ"حالة عزلة عالمية نسبية"، داعيًا إلى ما سماه "اقتصادًا قائمًا على الاكتفاء الذاتي" في إشارة صريحة إلى مخاوفه من توسع المقاطعة الدولية.
الحرب على غزة.. نقطة التحول الكبرى
لا يمكن فصل قرار "غينيس" المفاجئ عن الحرب الإجرامية التي شنها الكيان الإسرائيلي على غزة منذ 8 أكتوبر 2023، والتي استمرت لعامين كاملين قبل توقفها باتفاق وقف إطلاق النار الأخير. حرب وصفتها الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية بأنها إبادة جماعية ممنهجة، بعدما خلفت أكثر من 70 ألف شهيد فلسطيني غالبيتهم من النساء والأطفال إضافة إلى نحو 171 ألف مصاب، فضلًا عن دمار واسع شمل المنازل والمدارس والمستشفيات والبنى التحتية.
وتشير تقديرات أممية إلى أن تكلفة إعادة إعمار القطاع قد تتجاوز 70 مليار دولار، بينما يعيش أكثر من مليوني فلسطيني في وضع إنساني كارثي بعد أن فقدوا السكن والغذاء والرعاية الطبية.
ومع توالي التقارير الحقوقية التي وثّقت جرائم الكيان الإسرائيلي ـ من استهداف المدنيين عمدًا إلى سياسة التجويع الممنهج ومنع المساعدات الإنسانية ـ بدأت موجة الرفض العالمي تتوسع، لتنتقل من ساحات الاحتجاج الشعبي إلى قرارات سياسية ومؤسسية.
المقاطعة تتغلغل في المؤسسات العالمية
إن قرار "غينيس" وإن بدا للبعض رمزيًا، إلا أنه يعكس تحولًا مهمًا في ميزان التعاطي الدولي مع الكيان الإسرائيلي، ويمثل خطوة إضافية في سلسلة من الإجراءات التي تشكل مع الوقت جدارًا من العزلة الدولية.
فخلال العامين الماضيين:
- طُردت فرق رياضية من مسابقات دولية جراء رفضها مواجهة فرق الكيان الإسرائيلي.
- ألغت مهرجانات فنية مشاركة وفود إسرائيلية بسبب ضغوط جماهيرية.
- أعلنت جامعات واتحادات طلابية حول العالم مقاطعة أكاديمية للكيان الإسرائيلي.
- ارتفعت الأصوات داخل برلمانات أوروبية للمطالبة بفرض عقوبات ووقف بيع السلاح لمؤسسة الاحتلال.
ومع انضمام موسوعة "غينيس" إلى هذا المسار، يبدو أن صورة الكيان الإسرائيلي لم تعد قابلة للتلميع بسهولة كما كان يحدث سابقًا، وأن التعامل معه أصبح مكلفًا أخلاقيًا ومؤسسيًا للعديد من الجهات الدولية.
لماذا موسوعة "غينيس" بالذات؟
قد يتساءل البعض: ما أهمية موسوعة أرقام قياسية في سياق الصراع السياسي؟
الجواب أن غينيس ليست مجرد موسوعة، بل أداة اعتراف عالمي تعطي للدول والأفراد مساحة لإظهار صورتهم الإيجابية ومردودهم الحضاري والإنساني. وعندما تُغلق هذه النافذة أمام الكيان الإسرائيلي، فإن الرسالة الضمنية هي:
لا إنجاز إنساني يمكن أن يُحتفى به بينما تُرتكب المجازر بحق الأطفال في غزة، ولا رقم قياسي يلمّع صورة بلد تلطخت يداه بالدم.
إنها ضربة معنوية أكثر مما هي إجرائية، لكنها ضربة مؤلمة، لأنها تطال ما تحاول تل أبيب ترويجه من "صورة تقدمية وإنسانية"، مقابل ما يراه العالم من جرائم وحصار وقتل وتجويع.
إلى أين تتجه الأمور؟
المشهد يبدو واضحًا: العالم لم يعد يتسامح مع الكيان الإسرائيلي كما كان يفعل في السابق. الضغط الشعبي العالمي يتصاعد، ومؤسسات كثيرة بدأت تستمع لصوت الشارع الذي يصرخ من أجل العدالة للفلسطينيين. وما قرار "غينيس" سوى علامة إضافية على أن مرحلة جديدة بدأت.
قد تسعى تل أبيب قريبًا للضغط على المؤسسة لإعادة فتح باب طلبات التسجيل، وربما تجند شخصيات سياسية ودبلوماسية لتحقيق ذلك، لكن السؤال الحقيقي يبقى: هل يمكن لموسوعة عالمية أن تتجاهل حجم الرأي العام الغاضب من جرائم الكيان الإسرائيلي؟
وإلى حين تتضح الإجابة، سيبقى قرار غينيس بمثابة صفعة علنية لهذا الكيان الذي بات يتلقى الضربات تباعًا في الميادين الدولية، في وقت يكافح فيه للتغطية على سجله الدموي في غزة.
إن مقاطعة موسوعة "غينيس" للكيان الإسرائيلي ليست مجرد خبر عابر، بل تطور يعكس عمق التحول العالمي تجاه هذا الكيان الذي فقد الكثير من شرعيته الأخلاقية أمام شعوب العالم. هي خطوة تُضاف إلى سجل متزايد من العزلة والمقاطعة، وتشير بوضوح إلى أن العالم بدأ يقول بصوت أعلى: لا للتطبيع مع دولة تمارس الإبادة وترى نفسها فوق القانون.
وبينما يحاول الكيان الإسرائيلي ترميم صورته المتهالكة، يبدو أن الطريق نحو إعادة القبول العالمي سيكون طويلاً وشاقًا وربما مستحيلاً طالما بقيت غزة تنزف ورفات الأطفال تُجمع من تحت الركام.
