الوقت – انقضى خمسة أشهر على الغارات الغاشمة والقصف الجائر الذي طال منشآت إيران النووية السلمية، ولم تقف وكالة الطاقة الذرية الدولية عند حدود التقاعس عن إدانة عدوان الكيان الصهيوني فحسب، بل تجاوزت ذلك لتستحيل هذه المؤسسة المنبثقة عن الأمم المتحدة - والمحصورة صلاحياتها في دائرة الرقابة - إلى معول هدم في يد الغرب يقوّض أركان إيران.
وقد أفصح “محمد إسلامي” نائب الرئيس الإيراني ورئيس هيئة الطاقة الذرية، إبان مشاركته في المؤتمر العام التاسع والستين للوكالة في فيينا، قائلاً: “نشهد سلوكاً منافياً للمهنية من الوكالة التي لزمت الصمت ولم ترفع صوتها إدانةً لقصف المنشآت النووية الإيرانية، بل وقفت موقف المتفرج المتظاهر بالحياد، مجسدةً ازدواجية المعايير في أجلى تجلياتها وأبهى صورها.”
تنسجم تصريحات رئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية مع نهج الوكالة المراوغ، فتستوقفنا - على سبيل المثال - مواقف مديرها العام إزاء محطة زابوروجيا النووية، حيث تتوالى البيانات والقرارات بصورة دورية حول قصف هذه المنشأة في أوكرانيا، بينما يخيّم صمت الأموات على الهجوم العسكري الذي استهدف المنشآت النووية الإيرانية الرازحة تحت نير الضمانات والرقابة المشددة، هذا التباين الصارخ ينطق بلسان الحال ويشي بجلاء عن ازدواجية مقيتة في التعامل مع إيران، وجدير بالذكر أن العدوان الصهيوني الأخير على إيران لم يقتصر على توجيه ضربات للصناعة النووية فحسب، بل طعن ميثاق الأمم المتحدة في صميمه.
أوفر التفتيش نصيباً وأعظم الاتهامات جزافاً
ما فتئ المدير العام لوكالة الطاقة الذرية الدولية، في غمار اجتماعات مجلس المحافظين ولقاءاته الإعلامية على امتداد السنوات السابقة، يطلق سهام “غياب الشفافية” نحو البرنامج النووي الإيراني.
تتهاوى هذه المزاعم أمام حقيقة ناصعة مفادها بأن القدرات النووية الإيرانية، رغم تواضعها إذ لا تتجاوز 3% من القدرات العالمية، استأثرت بنصيب الأسد من عمليات التفتيش، إذ بلغت نسبتها 25% من مجمل عمليات التفتيش التي أجرتها الوكالة حول العالم، أي بمعدل يفوق عشرة أضعاف ما تخضع له سائر الدول، وفي المقابل، يكتنز الكيان الصهيوني ترسانةً نوويةً دون أن ينضم إلى معاهدة حظر الانتشار النووي، وتقف الوكالة متخاذلةً في حالة من الخنوع والاستكانة، عاجزةً عن اتخاذ أي إجراء إزاء ممارسات تل أبيب المشبوهة.
وقد كشفت وكالة بلومبرج الأمريكية، استناداً إلى تقرير موثق، أن مفتشي وخبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية أمضوا خلال عام واحد فقط ما يربو على 1100 ساعة-شخص على الأراضي الإيرانية، مسجّلين بذلك رقماً قياسياً غير مسبوق، وأماط التقرير اللثام عن استكمال الوكالة لعمليات التفتيش على المنشآت النووية الإيرانية باستخدام كم هائل من الصور الفضائية الحديثة والقديمة، علاوةً على الزيارات الميدانية المتكررة.
وعلى الرغم من عمليات التفتيش واسعة النطاق التي طالت المنشآت النووية الإيرانية، والتعاون الوثيق بين إيران وخبراء ومفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية على مدى السنوات المنصرمة، لم تكف بعض الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة، عن إطلاق سهام الاتهامات نحو إيران، بينما انساقت الوكالة الدولية وراء السرد الغربي، متبنيةً نهجاً متلوناً في تعاملها مع طهران.
وثائق تفضح انتهاك حيادية الوكالة!
طالما تشدّقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في مواجهة اتهامات “تسييس موقفها من البرنامج النووي الإيراني”، بادعاء “الحياد المطلق”، غير أن الوثائق التي استحصلتها إيران من طي الكتمان ومن أرشيف الكيان الصهيوني “بالغ السرية”، تميط اللثام عن أن رافائيل غروسي يتمتع منذ عام 2016 بعلاقات وطيدة مع هذا الكيان، وقد أسهم بدور محوري في حبك ونشر تقارير وأخبار مغرضة ضد الأنشطة النووية السلمية الإيرانية.
وفقاً لإحدى الوثائق المسربة من أدراج الكتمان، فإن “رافائيل غروسي”، المدير العام الحالي للوكالة الدولية للطاقة الذرية، ترتبطه “علاقات خاصة” بـ"الكيان الصهيوني"، وتشير سلسلة من الأدلة الدامغة والرسمية الأخرى إلى أن اعتلاء غروسي سدة المنصب في الوكالة، شكّل منعطفاً خطيراً في تأجيج النهج العدائي للوكالة الدولية ضد البرنامج النووي السلمي الإيراني، وتفصح الوثائق التي انتزعتها إيران من أرشيف الكيان الصهيوني المكتوم، أن رافائيل غروسي نسج خيوط تعاون وثيق مع الكيان الصهيوني في أروقة الوكالة الدولية للطاقة الذرية منذ عام 2016، وأسهم في حبك ونشر تقارير وأخبار مسمومة ضد الأنشطة النووية السلمية الإيرانية في إطار تنفيذ الاتفاق النووي لعام 2015.
وتكشف طيات الوثائق أن حشد المواقف الدولية ضد إيران في المحافل الدولية، وعلى رأسها الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان يجري منذ عام 2016 بتنسيق محكم بين أقطاب الكيان الصهيوني و"رافائيل غروسي" شخصياً، وتبين هذه الوثائق وجود تنسيق مسبق بين الكيان وغروسي قبل كل حملة تشويه ضد إيران.
فعلى سبيل المثال، وبعد خمسة أشهر فقط من إبرام الاتفاق النووي، سعى الكيان الصهيوني، متوسلاً بأدوات الوكالة، إلى تقويض الاتفاق النووي الإيراني وتهيئة الأجواء لإشعال فتيل توتر جديد ضد إيران من خلال نشر أخبار ملفقة حول مخططات إيران لاستخدام أجهزة طرد مركزي متطورة بحلول عام 2027، ورغم أن الوكالة تنصلت في 29 يوليو 2016، عبر رسالة رسمية إلى إيران، من دورها كمصدر لنشر هذا الخبر وأنكرت وجود أي اتصال مع ممثلي الكيان الصهيوني، إلا أن الوثائق تشهد على وجود تنسيق وثيق بين “ميراف زافاري-أوديز”، السفيرة الرسمية للكيان، وغروسي شخصياً.
في إحدى هذه الوثائق، التمست “ميراف زافاري أوديز”، الممثلة الدائمة لـ "إسرائيل" لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في رسالة طي الكتمان مؤرخة في الـ 10 من مايو 2016، لقاءً عاجلاً مع غروسي لتدارس المستجدات الأخيرة.
كانت “ميراف زافاري-أوديز” الممثلة الرسمية لـ "إسرائيل" لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتحديداً خلال الفترة من 2014 إلى 2016، حيث اضطلعت بدور الناطقة الرسمية لمواقف "إسرائيل" في محافل الوكالة ومجلس المحافظين.
وإبان فترة الاتفاق النووي، وصفت زافاري-أوديز مراراً تعاون إيران مع الوكالة بأنه متباطئ وغير كاف، واتهمت الوكالة (في عهد يوكيا أمانو) بتقديم “معلومات مغلوطة” حول البرنامج النووي الإيراني.
يفضح تمحيص رسائل “ميراف زافاري-أوديز” الإلكترونية أن مهمتها المخصوصة، علاوةً على التنسيق الوثيق والخاص مع غروسي للتأثير على مسار الوكالة، كانت صرف أنظار العالم عن البرنامج النووي غير السلمي للكيان الصهيوني، وتسليط الأضواء على البرنامج النووي السلمي الإيراني.
وعلى الرغم من استحواذ البرنامج النووي الإيراني على 70% من عمليات تفتيش الوكالة، ما انفك غروسي يعتبر القيود المفروضة على وصول بعض المفتشين “ضربة فادحة” لقدرة الوكالة الرقابية.
في العديد من الحالات، أثبتت إيران حسن نواياها من خلال التعاون التقني، وقبول المفتشين، وحتى تركيب الكاميرات، لكن غروسي إما تجاهل هذا التعاون أو قلّل من أهميته، فعلى سبيل المثال، في عام 2021، سمحت إيران لغروسي بتركيب كاميرات مراقبة خاصة في موقع كرج، لكن تقرير الوكالة صدر بلهجة حادة أثارت غضب المسؤولين الإيرانيين.
