الوقت- شهدت العلاقات بين الرياض وبيروت في الآونة الأخيرة تقلبات شتى وتحولات جذرية، من تقليص العلاقات الدبلوماسية إلى قطع أواصر التعاون التجاري وتقليص المعونات المالية، ما أفضى إلى تصدع بنيان الثقة المتبادلة وتوهين أركان العلاقات التاريخية بين البلدين، غير أن الرياض، في ضوء متغيرات المشهد الإقليمي وتحولاته، تقف اليوم على أعتاب العودة إلى الساحة اللبنانية لترميم صورتها والاضطلاع بدور محوري في مجريات الأحداث، وقد لقي الإعلان عن هذا التوجه صدى واسعاً في أروقة الإعلام اللبناني وبين دهاليز السياسة ومحافلها.
وفي هذا المضمار، کشف مسؤول سعودي رفيع المستوی لوكالة رويترز بأن الرياض بصدد اتخاذ خطوات وشيكة لتعزيز أواصر التبادل التجاري مع بيروت، وأبان المسؤول أن وفداً من المملكة سيحط رحاله قريباً في بيروت لإجراء مباحثات تهدف إلى تذليل العقبات التي تعترض سبيل الصادرات اللبنانية إلى أسواق المملكة.
وأشار المسؤول إلى أن “جوزيف عون”، رئيس الجمهورية، و"نواف سلام"، رئيس الوزراء اللبناني، قد ناشدا المملكة إعادة النظر في سياساتها تجاه لبنان، وفي هذا الصدد، أعرب جوزيف عون عن موقفه قائلاً: “لقد آن الأوان ونحن نترقب تحركاً سعودياً، ولا سيما أنني أكدت مراراً أن نجدة لبنان تأتي من الأشقاء العرب المحيطين بنا”.
وما يجدر ذكره أن المملكة أوصدت أبوابها في وجه كل الواردات من لبنان في عام 2021، عقب مزاعم ضبط شحنات “كبتاغون” قادمة من الأراضي اللبنانية والسورية، وقد فاقم هذا الإجراء من وطأة الأزمة الاقتصادية التي يرزح تحتها لبنان منذ عام 2019، وألقى بظلاله القاتمة على صادرات المنتجات الزراعية إلى الأسواق الخليجية، وعليه، ترى الرياض في رفع هذه القيود المفروضة على الواردات اللبنانية أول بارقة أمل ومؤشراً ملموساً على تحسن العلاقات وتجديد أواصرها.
مساعٍ حثيثة لإضعاف حزب الله عبر بوابة الاقتصاد
تأتي عودة المملكة إلى الساحة اللبنانية في وقتٍ قدّم فيه توم باراك، مبعوث الولايات المتحدة لشؤون لبنان وسوريا، جملةً من المشاريع للحكومة اللبنانية خلال الأشهر المنصرمة بغية تجريد حزب الله من سلاحه وضمان أمن الأراضي المحتلة، وقد جوبهت هذه المشاريع، التي صُممت في جوهرها لخدمة مصالح الكيان الصهيوني، برفض قاطع من قبل أركان الدولة في بيروت وقيادات حزب الله، ومن هذا المنظور، يمكن اعتبار التحركات السعودية الجديدة حلقةً في سلسلة استراتيجية واشنطن لتمهيد الطريق لنزع سلاح حزب الله وتجريده من قوته.
تتبلور السياسة السعودية الجديدة في خضم ظروفٍ شهد فيها لبنان أتون أزمة متفاقمة خلال العامين المنصرمين بسبب المواجهة مع الكيان الصهيوني، وعلى الرغم من وقف إطلاق النار، لا يزال شبح الحرب يخيّم بأجنحته السوداء فوق ربوع لبنان، وفي هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، يمثّل سلاح حزب الله الدرع الواقي والرادع الوحيد لصد غطرسة الکيان الصهيوني، وهو ما تسعى الرياض وواشنطن إلى انتزاعه بشتى السبل والوسائل.
لقد كشفت الانتهاكات المتكررة لوقف إطلاق النار من قبل آلة الحرب الصهيونية خلال مفاوضات نزع السلاح أنه حتى في حال التوصل إلى اتفاق محتمل، فإن التهديدات ستظل قائمةً وماثلةً، وقد ترسخت القناعة لدى أبناء لبنان وساسته بأن تجريد حزب الله من سلاحه، سيفضي إلى تلاشي القوة الضاربة القادرة على الذود عن حياض لبنان وصون حرمة أراضيه، ولهذا السبب، رفع قائد الجيش اللبناني صوته محذراً من عدم التزام الصهاينة بتعهداتهم، مطالباً بتعليق احتكار الجيش لتأمين أمن نهر الليطاني.
وفي هذا المشهد المتأزم، تنتهج المملكة سياسة المكر والخداع، متخذةً من دعم الجيش اللبناني وتقويته في مواجهة تهديدات تل أبيب ذريعةً لتعزيز نفوذها في دهاليز السياسة وأروقة المؤسسة العسكرية اللبنانية، وتهيئة الأجواء لتجريد المقاومة من سلاحها وإضعاف شوكتها.
مبادرة سياسية لإزاحة المقاومة عن مسرح الأحداث
يُعد الحضور الطاغي لحزب الله في النسيج السياسي اللبناني، المعزز بتأييد جماهيري عريض، أحد أهم بواعث القلق والهواجس التي تؤرّق مضاجع أعداء المقاومة، وقد ركزت المملكة، في محاولتها لتقليص هذا النفوذ المتنامي، على استقطاب أصوات اللبنانيين المغتربين واستمالتهم.
أماطت وزارة الخارجية والمهاجرين السعودية اللثام في بيان لها عن تسجيل 55,548 ناخباً لبنانياً مقيماً في المهاجر للانتخابات البرلمانية، وأن هذه الأصوات موزعة على سفارات وقنصليات لبنان في أرجاء العالم، ووفقاً للبيان السعودي، فإن الغالبية العظمى من اللبنانيين المقيمين في الخارج تتخذ من فرنسا موطناً لها، تليها ألمانيا وكندا والولايات المتحدة وأستراليا والإمارات وساحل العاج والمملكة العربية السعودية.
ورغم محاولات المسؤولين السعوديين الإيحاء بأن اللبنانيين في المهاجر يتخذون من الدول الغربية مقراً لإقامتهم، لإخفاء الطبيعة الهدامة لسياساتهم وإخفاء نواياهم، إلا أن الوقائع الدامغة تؤكد أن المملكة تُعد أحد المراكز الرئيسية لإقامة اللبنانيين في المنطقة، كما تحتضن مشيخات الخليج الفارسي الأخرى عشرات الألوف من اللبنانيين، ما يشكّل رقماً ذا شأن وثقل في المعادلة السياسية.
وعليه، تسعى المملكة ومشيخات الخليج الفارسي، متسلحةً بترسانتها المالية الضخمة والدعم السياسي الغربي، إلى استمالة قلوب اللبنانيين المقيمين في الخارج ودفعهم نحو مناصرة التيارات المتماشية مع توجهاتها. وفي السيناريو الذي تتوخاه الرياض، يمكن لولوج هذه القوى السياسية إلى قبة البرلمان المقبل، أن يشكّل ذريعةً لترويج أطروحةٍ مفادها بأن حزب الله قد تهاوت شعبيته وخبت جذوتها. ويهدف هذا المخطط في نهاية المطاف إلى تمهيد الطريق للتقويض التدريجي للمكانة السياسية والاجتماعية للمقاومة، والذي يمكن، وفق حسابات آل سعود، أن يقلب موازين القوى في لبنان لمصلحة حلفائهم وأذنابهم.
عقبات كأداء تعترض الرياض في تعزيز الجيش اللبناني
تسعى المملكة، من خلال ضخّ المساعدات المالية وإبرام صفقات السلاح، إلى إظهار الجيش اللبناني في صورة القوة الضاربة، للإيحاء بأنه قادر على تأمين الحدود الجنوبية في مواجهة عدوان الكيان الصهيوني وغطرسته، غير أن الحقيقة الساطعة هي أن الجيش اللبناني يفتقر إلى العتاد والقوة الكافية للاضطلاع بهذه المهمة الجسيمة، وحتى في حال تلقيه معونات محدودة من الرياض، فلن يمتلك القدرة الرادعة المنشودة. فالجيش اللبناني بحاجة إلى استقطاب آلاف المقاتلين وامتلاك ترسانة من الأسلحة المتطورة لمجابهة التهديدات الصهيونية، وهي تكلفة باهظة تناهز مليارات الدولارات.
تتحرك المملكة في مسرح الأحداث اللبنانية في وقتٍ لا يبدي فيه الكيان الصهيوني أدنى استعداد لإرساء دعائم وقف دائم لإطلاق النار مع لبنان، وقد انتهك الهدنة عشرات الآلاف من المرات خلال العام المنصرم، وأمطر مئات المواقع في جنوب لبنان بوابل من القذائف والصواريخ، بل إن هذا الكيان قد شرع في وضع حجر الأساس للتوسع الإقليمي في جنوب لبنان، وقد أماطت قوات اليونيفيل اللثام في بيان لها عن أنه “في شهر أكتوبر، عاينت قوات حفظ السلام جداراً خرسانياً على شكل حرف T شيدته قوات الاحتلال الإسرائيلي في جنوب غرب بلدة يارون، يتجاوز الخط الأزرق ويجعل ما يربو على 4000 متر مربع من الأراضي اللبنانية عصيةً على الوصول”، وفوق هذا وذاك، أعلنت حركة الاستيطان الصهيونية “أوري تسافون” عن طرح أراضٍ وعقارات في جنوب لبنان للبيع، بغية تشييد مستوطنات صهيونية.
من ناحية أخرى، تحوم الشكوك حول القدرة المالية للمملكة على تجهيز الجيش اللبناني وتعزيز قدراته في ظل الظروف الراهنة، فالمملكة نفسها ترزح تحت وطأة أزمات اقتصادية متلاحقة، ما دفعها إلى إعادة النظر في مشاريع عملاقة مثل بناء مدينة نيوم ورؤية 2030، وفي ظل هذه المعطيات، لن تكون الرياض قادرةً على مدّ يد العون بسخاء للبنان، وخاصةً في مجال إعادة الإعمار وترميم ما خلفته آلة الحرب الصهيونية من دمار.
ثمة معضلة أخرى تتمثل في أن المملكة، بينما تزعم عزمها على تجهيز الجيش اللبناني لمواجهة عدوان تل أبيب، فإنها تخطو في الوقت ذاته خطوات حثيثة نحو تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وبالتالي لن تقدم على أي إجراء قد يعصف بهذا المسار أو يعكّر صفوه.
وعلى ضوء ما سبق، يمكن اعتبار المشاريع الاقتصادية والوعود البراقة التي تطلقها المملكة في لبنان بمثابة استراتيجية لبيع الأوهام وتسويق السراب، تُقدم بهدف تضليل الرأي العام وذرّ الرماد في العيون، فهذه الإجراءات، وإن تزينت ظاهرياً بثوب المصلحة اللبنانية، إلا أنها في جوهرها مسعى محموم لتقويض أركان حزب الله وترسيخ المصالح الاستراتيجية للرياض والغرب في دهاليز السياسة وأروقة الأمن في هذا البلد.
مكافحة النفوذ الإيراني
تسعى الرياض وحلفاؤها الغربيون، من خلال دعم الطبقة السياسية اللبنانية وتنفيذ مخططات تستهدف إضعاف حزب الله، إلى تقليص النفوذ الإيراني في هذا البلد وتحجيم دوره.
ومن الأدوات الرئيسية في هذا المسعى المحموم، تعزيز الجيش اللبناني ليعمل كأداة طيعة وقوة خاضعة للإملاءات والتوجيهات، والغاية القصوى من هذه المساعي هي تكبيل يد إيران في الساحة اللبنانية والحيلولة دون نشوء تهديد مباشر يطال أمن الأراضي المحتلة ويزعزع أركانه.
وتُتابع هذه الاستراتيجية بوتيرة متسارعة في أعقاب العدوان الصهيوني الأخير على إيران، إذ يُرجح أن يتحول لبنان، مع اندلاع جولة جديدة من المواجهة بين الكيان الصهيوني وإيران، إلى ساحة اشتباك محتدمة، ما قد يعصف بأمن الأراضي المحتلة ويزلزل أركانه.
