الوقت – شهدت الأشهر المنصرمة تصاعداً محموماً في وتيرة الاعتداءات وانتهاك حرمة المسجد الأقصى، من قبل غلاة المستوطنين وزمر الأمن الصهيونية، تجري هذه الاعتداءات السافرة بدعم صريح من رموز التطرف كإيتمار بن غفير، وزير الأمن الداخلي في الكيان الصهيوني والعضو المتشدد في حكومة نتنياهو، وقد بلغت ذروتها المشهودة خلال ما تسمى مسيرة الأعلام، بيد أن هذه الانتهاكات ليست مجرد استفزازات عابرة أو نزوات طائشة، بل هي حلقات متصلة في مشروع متعدد الطبقات ومحكم النسج، يشمل أبعاداً سياسيةً وأيديولوجيةً وجيوسياسيةً وحضاريةً تتضافر في نسيج واحد.
أولاً: المسجد الأقصى… طوق نجاة نتنياهو وقطب رحى الصهيونية الدينية
يتبوأ المسجد الأقصى في خطاب الصهيونية الدينية مكانةً تتجاوز كونه مجرد بقعة مقدسة، ليرتقي إلى مقام الرمز المتوهج لتحقيق الوعود التوراتية والرؤى الأخروية، فبالنسبة لليهود وتيارات الصهيونية الدينية، يحمل ما يسمونه “جبل الهيكل” - حيث يزعمون وجود الهيكلين الأول والثاني - دلالات تاريخية وأسطورية متجذرة في أعماق وجدانهم، ويروجون لاعتقاد راسخ مفاده بضرورة إعادة بناء الهيكل (الثالث) في هذا الموقع تحديداً، كتتويج لمشروعهم الاستيطاني.
تتبنى جماعات متطرفة كـ"حركة إعادة بناء الهيكل" عقيدة إقامة هيكل سليمان المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى المبارك، وقد اقتربت هذه الرؤية في السنوات الأخيرة من دوائر صنع القرار مع تسلل شخصيات كبن غفير إلى سدة الحكم ومفاصل السلطة.
بن غفير، الذي وُسم جبينه بوصمة الإدانة بتهم التحريض العنصري، أضحى اليوم بصفته وزيراً للأمن الداخلي، يمنح صكوك الغفران لمهاجمة قبلة المسلمين الأولى، وقد جاهر مراراً بضرورة فرض هيمنة يهودية شاملة على هذا المعلم المقدس وتقليص الوجود الإسلامي فيه إلى أدنى حد، وقد استحالت هذه الرؤية المتطرفة، بمباركة أحزاب التشدد الديني في الكنيست، إلى سياسة رسمية للدولة العبرية.
وفي هذا المضمار، اضطر نتنياهو، صيانةً لائتلافه المتداعي، وخاصةً بعد الإخفاق العسكري المدوي في غزة وإذعانه لاتفاق مع حماس، إلى مدّ حبال الودّ للمتشددين وتقديم قرابين الولاء لهم.
في المشهد السياسي الداخلي للكيان، تشكلت حكومة نتنياهو الائتلافية على مرّ السنين بالاتكاء على أحزاب اليمين الديني والمتطرف، ومن المعضلات المستعصية التي تؤرقه، هشاشة هذا التحالف وتلويح الأحزاب الصغيرة بسيف الانسحاب من الحكومة وما يترتب على ذلك من انهيار صرحها، وفي هذا المناخ المضطرب، يمثّل إطلاق يد أشخاص مثل إيتمار بن غفير من حزب “قوة يهودية” أو حلفائه، مناورةً تكتيكيةً بارعةً.
فقد لوّح بن غفير وأنصاره مراراً بشبح الانسحاب من الائتلاف وتقويض أركان الحكومة إذا لم يتم إسباغ الشرعية على برامجهم المتطرفة في الاستيطان، وتغيير هوية القدس وضمّ الضفة الغربية وغيرها من المخططات التوسعية.
ولذلك، يسعى نتنياهو، من خلال إطلاق عنان مؤيديه للهجوم على درة المقدسات الإسلامية المحتلة، إلى توطيد قاعدته السياسية والحيلولة دون تصدع بنيان حكومته.
من زاوية أخرى، تشكّل هذه الممارسات المشينة درعاً واقياً لنتنياهو لاكتساب “غطاء أمني” سياسي: فحين تعوزه القدرة على إحراز النصر في شتى الميادين (كحرب غزة وتبادل الأسرى)، يحاول جاهداً إبراز أنه في مضمار تهويد القدس والمقدسات اليهودية يمثّل “تياراً متقدماً”، وإذا ما اتهمه منتقدوه في الداخل بالمساومة والتفريط، أمكنه القول إنه يكبح جماح الضغوط الداخلية ويسيطر على زمامها.
بعبارة أوضح، فإن إرخاء العنان لابن غفير لشن هجمات أو القيام بتحركات متطرفة في رحاب المسجد الأقصى، يمثّل إحدى “آليات التأمين” في لعبة السلطة الداخلية للکيان؛ وسيلةً لضمان الولاء السياسي أو تقليص مخاطر تفكك عرى الائتلاف.
وتتجلى مظاهر هذه السياسة في مسيرة الأعلام المشؤومة، واقتحام حشود المستوطنين لباحات المسجد الأقصى بمؤازرة عسكرية، ومحاولات التقسيم الزماني والمكاني لهذا الصرح المقدس، هذه الإجراءات لا تقتصر على كونها استفزازيةً فحسب، بل تشكّل حلقات في سلسلة مشروع ترسيخ السيادة اليهودية على القدس الشرقية وطمس معالمها العربية والإسلامية.
ثانياً: نسف أسس حل الدولتين في الواقع العملي
يرتكز حل الدولتين، الذي تتغنى به الدول العربية والغربية، على مبدأ تقسيم مدينة القدس وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، بيد أن الإجراءات المتلاحقة للكيان الصهيوني، وبالأخص التركيز المحموم على المسجد الأقصى، تكشف النقاب عن مساعيه الحثيثة لتقويض هذا الحل من جذوره، إذ إن تهويد القدس الشرقية وتحويل المسجد الأقصى إلى رمز للسيادة اليهودية، ينسف إمكانية تقسيم المدينة المقدسة ويجعلها أثراً بعد عين.
وقد تصاعدت وتيرة هذه العملية المنهجية مع تنامي الدعم الدولي لإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية في أعقاب ملحمة طوفان الأقصى وحرب غزة، ولا سيما مع انضمام دول أوروبية وازنة كفرنسا وبريطانيا وإسبانيا وأيرلندا والنرويج إلى قافلة الاعتراف بفلسطين.
في جوهر الأمر، يمثّل المسجد الأقصى، بوصفه نبض القدس الشرقية وقلبها الخافق، محوراً أساسياً في نسيج الهوية الفلسطينية، وأي تغيير في وضعية هذا المعلم المقدس، يعني محو رمز الصمود والشرعية الفلسطينية في مدينة الأنبياء، فالصهاينة، من خلال هذه الممارسات الاستفزازية، يبعثون برسالة لا تقبل التأويل مفادها بأن أي مخطط لتقسيم القدس سيبقى حبراً على ورق، وأن السيادة الكاملة للكيان الصهيوني على هذه المدينة المقدسة خط أحمر لا يقبل المساومة.
من زاوية أخرى، مع تكاثر أعداد المستوطنين في محيط المسجد الأقصى ومحاولات تغيير النسيج الديموغرافي للمنطقة، يصوغ الكيان الصهيوني وقائع جديدة على الأرض تجعل أي عودة إلى حدود عام 1967 ضرباً من المستحيل وخيالاً لا يرقى إلى مستوى الواقع. هذه الإجراءات التعسفية حوّلت حل الدولتين عملياً إلى أطلال نظرية وشعارات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع.
ثالثاً: تخطي الخطوط الحمراء الدولية؛ المسجد الأقصى منصة لابتلاع الضفة الغربية
يشكّل إقرار مخطط ضمّ الضفة الغربية في أروقة الكنيست منعطفاً خطيراً في مسار سياسات الكيان العدوانية، ما يجسّد انهيار الخطوط الحمراء الدولية والازدراء التام بقرارات الأمم المتحدة وشرعيتها، وفي هذا السياق المتفجر، يتبوأ التركيز على المسجد الأقصى مكانةً رمزيةً واستراتيجيةً لا يستهان بها.
فعقب نكسة عام 1967، آلت السيطرة المادية على القدس الشرقية (بما فيها منطقة الحرم/المسجد الأقصى) إلى قبضة الصهاينة، غير أن الإطار القانوني للوضع الراهن ظل قائماً: أي إن للمسلمين حق العبادة المطلق، ولليهود حق الزيارة فقط دون الصلاة في ساحات المسجد، وظلت إدارة الشؤون الدينية للمسجد تحت مظلة الوقف الإسلامي ورعايته.
هذا الوضع المترنح والهش كان على الدوام هدفاً للضغط والتقويض. وبالأخص في الآونة الأخيرة، حيث جاهرت التيارات الصهيونية المتطرفة (سواء الأحزاب الدينية أو القومية) بمطالبها لفتح بوابات المسجد على مصراعيها أمام اليهود للصلاة في ساحاته، وإقامة الطقوس اليهودية العتيقة، وأخيراً إحداث تغيير جذري في الوضع القائم بما يخدم أطماعهم التوسعية.
فبترسيخ الوجود اليهودي في صرح المسجد الأقصى، يتوخى الكيان الصهيوني إضفاء هالة من الشرعية التاريخية والدينية على مشروع الضمّ الكامل للضفة الغربية. ويتمازج هذا المخطط مع حملة استيطان شرسة، وهدم ممنهج لمنازل الفلسطينيين، ومصادرة واسعة للأراضي، وتهجير قسري للسكان الأصليين، ويضطلع المسجد الأقصى في هذا السياق بدور محوري كرمز للهيمنة المطلقة على الأراضي المحتلة.
من منظور القانون الدولي، تمثّل هذه الممارسات انتهاكاً صارخاً لاتفاقية جنيف الرابعة وقرارات مجلس الأمن الدولي. بيد أن تل أبيب، متكئةً على الدعم الأمريكي السافر والصمت الأوروبي المريب، أظهرت عملياً أنها تضرب بعرض الحائط كل الخطوط الحمراء ولا تأبه لها.
في واقع الأمر، استحال المسجد الأقصى إلى منصة انطلاق لمشروع “إسرائيل الكبرى” الذي يستهدف في نهاية المطاف طمس الهوية الفلسطينية برمتها من الخريطة السياسية والثقافية للمنطقة. هذا المشروع التوسعي لا يشكّل تهديداً للفلسطينيين وحدهم، بل يقوّض أركان الاستقرار الإقليمي ويعصف بالأمن العالمي أيضاً.
رابعاً: تحويل الاحتلال إلى صراع حضاري.. وشائج الصلة بين الصهيونية والإنجيلية
من الأبعاد المستترة للتركيز المحموم على المسجد الأقصى، محاولة تحويل القضية الفلسطينية من قضية احتلال وتحرير إلى أتون صراع حضاري محتدم بين الإسلام والغرب.
بالنسبة للمسلمين قاطبةً، يمثّل المسجد الأقصى درة المقدسات بعد المسجد الحرام في مكة المكرمة والمسجد النبوي في المدينة المنورة، ويتجسّد في هذا الصرح الشامخ رمز الصمود والمقاومة، وتجليات الهوية الإسلامية-الفلسطينية، وعراقة الارتباط التاريخي بأرض فلسطين المباركة.
يقدم الصهاينة، بمؤازرة واسعة من المسيحيين الإنجيليين في أمريكا، مشروع الهيمنة على المسجد الأقصى كتحقيق لنبوءات الكتاب المقدس وتجسيد لوعوده، يتبنى الإنجيليون عقيدةً راسخةً مفادها بأن إعادة بناء هيكل سليمان المزعوم، مقدمة حتمية لعودة المسيح المنتظر، هذا الاعتقاد المتجذر جعل مناصرتهم لاحتلال فلسطين لا تنبع من دوافع سياسية فحسب، بل تستمد جذورها من منابع دينية وأخروية عميقة، ونتيجةً لهذا التداخل العقائدي، تُصوَّر أي معارضة لمشروع تهويد المسجد الأقصى، على أنها تمرد على “المشيئة الإلهية” ومناهضة لإرادة السماء.
هذا الخطاب المسموم يمهّد الطريق لتأجيج نار التوترات الدينية وإلهاب مشاعر المسلمين في أرجاء المعمورة، ويسعى الكيان الصهيوني، مستثمراً هذا الدعم اللامحدود، إلى تصوير الاحتلال البغيض كحلقة في سلسلة صراع حضاري مشروع وتخفيف وطأة الضغوط الدولية.
من الجانب الآخر، تجهد وسائل الإعلام الغربية، بانحيازها السافر للروايات الصهيونية، في تشويه صورة المقاومة الفلسطينية ووصفها بـ"الإرهاب الإسلامي"، وهذا النهج المضلل لا يعدّ مجافياً للحقيقة والإنصاف فحسب، بل يفتح الباب على مصراعيه لانتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا وتعميق الشرخ الديني في أوصال المجتمعات الغربية.
وفي خضم هذه المعمعة، تحوّل المسجد الأقصى إلى رمز متوهج للصراع الحضاري المحتدم؛ صراع يديره الصهاينة ببراعة لمصلحة مشروعهم التوسعي، مستخدمين في ذلك شتى الأدوات الدينية والسياسية والإعلامية.
خاتمة القول
إن استهداف الصهاينة للمسجد الأقصى يتجاوز في أبعاده حدود المشروع الديني أو الأمني المحض، ليغدو ركيزةً أساسيةً لترسيخ دعائم السلطة الداخلية، وتقويض أسس السلام، وتوسيع رقعة الاحتلال البغيض، وإذكاء أوار الصراع الحضاري بين الأمم، وفي ظل هذا المشهد القاتم، أسهم صمت المجتمع الدولي المريب وتخاذل الدول العربية ومؤازرة بعض التيارات الدينية الغربية، في منح الكيان الصهيوني جرأةً غير مسبوقة لمواصلة عدوانه السافر وانتهاكاته الصارخة.
