الوقت – شكّل الاعتداء الصهيوني الغاشم على قطر ومحاولة اغتيال قادة حماس، منعرجاً خطيراً في مسار المعادلات الأمنية بغرب آسيا، وإيذاناً بانقلاب موازين القوى في المنطقة، فقد كانت الدول الخليجية تعيش في وهم أن شرارة العدوان الصهيوني لن تتجاوز حدود فلسطين المحتلة والدول المتاخمة كلبنان وسوريا، غير أن هذا الوهم قد تبدد وتلاشى حين امتدت يد البطش لتطال عقر دار العرب في الخليج الفارسي.
وهكذا، بعد أن استباح الصهاينة حرمة الدوحة، تهاوت أوهام من ظنوا أن تطبيع العلاقات مع تل أبيب سيكون طوق نجاة من شرور المحتل وباباً مشرعاً نحو واحات الازدهار الاقتصادي، ودوى صوت النذير في أرجاء المشيخات الخليجية منبهاً من غفلة قاتلة.
وقد دفع استشعار حكام الخليج الفارسي لهول الخطر الداهم من صلف الكيان الصهيوني، إلى التماس سبل النجاة عبر التعاون المشترك، أملاً في صون الديار وتعزيز هيبة الردع الإقليمي، وفي هذا المضمار، أطلقت قطر وعداً بردٍ “جماعي” إقليمي على عدوان تل أبيب الآثم.
وقد أفصح الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني، رئيس وزراء قطر، لشبكة “سي إن إن” قائلاً: “تجري الآن مشاورات مستفيضة بشأن هذا الرد مع الأشقاء والشركاء، ويُرتقب اتخاذ قرار حاسم بهذا الشأن في قمة القادة العرب والمسلمين المزمع انعقادها في الدوحة".
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة بغيوم التهديد، عادت الأنظار تنصب على الأداة الرسمية الوحيدة للذود الجماعي بين هذه البلدان، ألا وهي قوة “درع الجزيرة”. والسؤال الجوهري الذي يلحّ في الأذهان: ما طبيعة الرد العربي المرتقب على العدوان الصهيوني السافر؟ وهل يمكن لتحالف عسكري كدرع الجزيرة أن يشكّل سياجاً منيعاً أمام غطرسة هذا الكيان وسياساته العدوانية؟
تاريخ درع الجزيرة وجذورها
تُعد قوة درع الجزيرة الذراع العسكرية لمجلس التعاون، وقد أبصرت النور عام 1984 بهدف توفير درع واقية للدول الأعضاء ضد أطماع المتربصين وضمان استتباب الأمن عند تلبد سماء الاستقرار بغيوم الاضطرابات، يتربع مقر قيادتها في أرض المملكة العربية السعودية، وتتألف صفوفها من جنود الدول الأعضاء.
استدعيت هذه القوة للذود عن حياض هذه الدول في عدة منعطفات على مدى أربعة عقود مضت، وكان أبرز تجلياتها دخولها أرض البحرين إبان هبوب رياح التغيير عام 2011، تلبيةً لنداء المنامة ودعماً لعرش آل خليفة. وعلى الرغم من سهام النقد التي انهالت من المجتمع الدولي على هذا التدخل، إلا أن حكام العرب رأوا في درع الجزيرة برهاناً ساطعاً على نجاعتها في استتباب الأمن واستقرار أركان الحكم، بيد أنها لم تختبر قط في ميدان مواجهة الأخطار الخارجية المحدقة، ولا سيما من خصم في قوة "إسرائيل" وعتادها.
معضلات درع الجزيرة في مواجهة التهديد الصهيوني
رغم تعليق حكام العرب الآمال على درع الجزيرة لإرساء قواعد الردع أمام تهديدات تل أبيب، إلا أن هذه القوة الرمزية ترزح تحت وطأة تحديات جسام تقيدها عن الدفاع الفعال عن سيادة الأوطان العربية.
أولى هذه العقبات هو الارتهان للدعم العسكري والاستخباراتي الأمريكي، فمعظم أسلحة الدرع وأنظمة الدفاع غربية المنشأ، ويكاد يضرب من المحال استخدامها بفاعلية دون مباركة واشنطن ومؤازرتها، والحال أن الولايات المتحدة حليف استراتيجي للكيان الصهيوني في معظم المواقف، ويستعصي على الخيال أن تسمح واشنطن للدول العربية باستخدام هذه المعدات ضد من تعتبره درة تاج حلفائها في المنطقة.
هذه التبعية المقيتة لواشنطن كبّلت قرار درع الجزيرة، وحولتها من درع حصينة إلى مجرد رمز باهت لوحدة مفقودة، بدلاً من أن تكون قوةً ضاربةً جاهزةً لكبح جماح الکيان الصهيوني المتغطرس.
أما العائق الثاني فيتجلى في مسار التطبيع المخزي بين بعض دول مجلس التعاون، كالإمارات والبحرين، مع تل أبيب، فاتفاقيات أبراهام التي وُقعت عام 2020 فتحت مصاريع الأبواب، وخصوصاً أمام أبوظبي والمنامة، لولوج عتبات مرحلة جديدة من العلاقات الاقتصادية والأمنية وحتى الاستخبارية مع تل أبيب، وهذا التقارب المشين أضعف جذوة الأمل في تشكيل جبهة عسكرية موحدة ضد الكيان الصهيوني.
بعبارة أخرى، كيف يُتصور أن تشهر قوات درع الجزيرة سيوفها في وجه كيانٍ يعانقه بعض أعضائها ويمدّ له يد المودة؟ هذه التناقضات المريرة بين الدول العربية مكّنت "إسرائيل" من التسلل عبر شقوق الجدار العربي المتصدع أكثر من أي حقبةٍ مضت.
تحدٍ آخر يكمن في الخلافات السياسية والفكرية المستعرة بين دول مجلس التعاون، فمحور الرياض وأبوظبي غارق منذ سنوات في صراع محموم مع تيارات الإسلام السياسي مثل “الإخوان المسلمين”، التي تحظى بمكانة مرموقة في قلوب شرائح واسعة من أبناء بعض البلدان العربية، هذه الخلافات العميقة لم تقوّض أسس التكامل السياسي على المستوى الداخلي فحسب، بل حالت أيضاً دون تشكيل صف موحد ضد الكيان الصهيوني على الصعيد الإقليمي.
فعلى سبيل المثال، موقف قطر من الإخوان المسلمين يتباين تبايناً جذرياً مع موقف السعودية والإمارات، وهذا التباين يذكي نار الريبة والشك في ميدان التعاون العسكري. وقد تجلت هذه الهوة السحيقة بوضوح في أزمة قطر عام 2017، حين قطع مجلس التعاون علاقاته الدبلوماسية مع الدوحة لسنوات، وفرض عليها عقوبات قاسية طالت مختلف مناحي الحياة.
من ناحية أخرى، وبالنظر إلى موقع قطر الجغرافي، يرجّح كثير من خبراء الاستراتيجيا أن الهجوم الصهيوني الأخير ربما اخترق المجال الجوي السعودي أو الإماراتي، والملفت للأنظار أن أياً من هذين البلدين لم يطلق صافرة إنذار للدوحة، ما يشي بأن شيوخ العرب ليسوا متراصّين في مواجهة الخطر الصهيوني فحسب، بل إن خلافاتهم المستحكمة تحول دون أي عمل جماعي حقيقي للذود عن حياض أوطانهم وصون كرامة المنطقة.
وتشهد صفحات التاريخ الناصعة أن الدول العربية عادةً ما تصحو من سباتها العميق فقط عندما تشعر بلهيب النار يلفح جلدها، وتؤثر الانكفاء والصمت قبل أن تطالها ألسنة اللهب.
كما أن التباين الشاسع حول قضية فلسطين، زاد الطين بلةً وعمّق من عجز درع الجزيرة، ففي حين لا يزال نبض الشارع العربي ينبض بحب فلسطين ويعتبرها قضية العرب المركزية، فإن بعض الأنظمة العربية، وخاصةً في الرياض، تبدو مسكونةً بهاجس إضعاف أو حتى تقويض أركان حركات المقاومة مثل حماس ذات الجذور الإخوانية، أكثر من انشغالها بمواجهة غطرسة الاحتلال الإسرائيلي، هذا التقارب الخفي في المصالح بين بعض العواصم العربية وتل أبيب تجاه فصائل المقاومة، أخمد جذوة الحماس اللازمة لتشكيل جبهة عسكرية موحدة في إطار درع الجزيرة ضد الكيان الصهيوني.
أما على الصعيد التشغيلي والتنظيمي، فتواجه درع الجزيرة عقبات كأداء ومعوقات جمة، فبرغم أنها تضمّ نظرياً آلاف الجنود من أبناء دول مجلس التعاون، إلا أنها تفتقر إلى بنيان عملياتي متماسك وسلسلة قيادة فعالة لمجابهة الأعداء المتربصين، کما أن غياب المناورات المشتركة الواسعة، وهشاشة التنسيق الاستخباري بين الأعضاء، وضآلة فرص الوصول إلى منظومات دفاعية متكاملة، كلها عوامل نخرت في جسد هذه القوة وأضعفت من عزيمتها.
علاوةً على ذلك، فإن التفاوت الصارخ في مستوى التدريب والإمكانات بين الدول الأعضاء، وندرة التدريبات المشتركة الكافية، يجعل تنفيذ عمليات منسقة ضرباً من المستحيل، ولهذا السبب، ظلت درع الجزيرة حتى اليوم مجرد رمز باهت للوحدة العربية المفقودة أكثر من كونها سيفاً مسلولاً للذود عن حياض الأمة، وهذا الوهن المستشري يكشف عن هشاشة القدرة الدفاعية الحقيقية لهذه القوة في مواجهة التحديات المعاصرة.
استشراف المستقبل
تشير محصلة هذه العقبات والخلافات المستحكمة، إلى أنه رغم الخطر المحدق الناجم عن عدوان الكيان الصهيوني على قطر، والشعور بالتهديد المشترك الذي سرى في أوصال الدول الخليجية، فإن درع الجزيرة في وضعها الراهن تقف عاجزةً عن توفير حصن منيع لسيادة المشيخات، حتى وإن أيقظ دوي الصواريخ في سماء الدوحة الراقدين في سبات عميق.
وعليه، فما لم ينجح الحكام العرب في رأب الصدع المستفحل وردم الهوة السحيقة بينهم، والتحرر من أغلال التبعية العمياء للمظلة الأمريكية، فإن التعويل على تحالفات مثل درع الجزيرة سيظل أشبه بالسراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، ويبقى قاصراً عن توفير أمن حقيقي ومستدام للمنطقة في وجه غطرسة "إسرائيل" وعدوانها المستطير.