الوقت- شهدت الساحة الفلسطينية في الأيام الأخيرة تطورات ميدانية بارزة تجسدت في عمليتين نوعيتين، الأولى في قلب القدس المحتلة والثانية في شمال قطاع غزة، أسفرتا عن سقوط أكثر من عشرة قتلى صهاينة بينهم ضباط وجنود، هذه العمليات جاءت في وقت يواصل فيه الاحتلال الإسرائيلي حربه المفتوحة ضد المدنيين الفلسطينيين، مرتكباً مجازر يومية بحق النساء والأطفال، ومراهناً على سياسة القتل الجماعي والضغط الأمني لتحقيق أهدافه، غير أن نتائج الميدان تثبت العكس تماماً، إذ تكشف العمليات الأخيرة عن فشل المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، وعن عجزها في مواجهة تصميم المقاومة على مواصلة المواجهة.
في هذا السياق، يحمل ما جرى رسائل متعددة البعد: عسكرية، سياسية، نفسية، وحتى داخلية بالنسبة للمجتمع الإسرائيلي، إذ تبيّن أن الاحتلال مهما حاول إظهار قوته العسكرية، يبقى هشّاً أمام إصرار شعب يرفض الخضوع، وعليه، يمكن القول إن العمليات الأخيرة تمثل محطة جديدة في معادلة الصراع، تُعيد رسم موازين القوة وتضع نتنياهو وحكومته أمام مأزق متفاقم.
الضربة الأمنية في القدس وغزة
العملية التي استهدفت مستوطنين في تقاطع راموت بالقدس المحتلة مثّلت ضربة موجعة للمنظومة الأمنية الإسرائيلية، حيث وقعت في قلب منطقة تعتبرها تل أبيب "قلعتها الحصينة"، ورغم الكثافة الأمنية وكاميرات المراقبة والتسليح المنتشر، تمكن المقاومون من اختراق كل هذه التحصينات وتنفيذ هجوم أوقع سبعة قتلى وعشرات الجرحى.
بعد ساعات فقط، جاء الهجوم الثاني شمال غزة ليستهدف دبابة إسرائيلية ويؤدي إلى مقتل أربعة جنود بينهم ضابط برتبة، في مشهد كشف ضعف الآلة العسكرية التي لطالما تباهى بها الاحتلال، هذان الحدثان المتزامنان لم يكونا مجرد عمليات ميدانية، بل رسائل استراتيجية تؤكد أن المقاومة قادرة على التحرك في أكثر من جبهة، وتفرض معادلة ردع جديدة، من جهة أخرى، هذه العمليات تفضح العجز الاستخباراتي الإسرائيلي، فبعد مئات الأيام من الحرب والرقابة المشددة، لم تستطع الأجهزة الأمنية التنبؤ أو إحباط أي من الهجومين، وهذا يعكس حقيقة واضحة، "إسرائيل" ليست قوة لا تُقهر، بل كياناً هشاً تحاصره المقاومة من الداخل والخارج.
حسابات نتنياهو الخاطئة
منذ اندلاع الحرب على غزة، حاول بنيامين نتنياهو تسويق نفسه كقائد قادر على "القضاء على حماس" وتحقيق نصر عسكري يعيد له رصيده السياسي، إلا أن الواقع الميداني يناقض دعايته، فبدلاً من كسر إرادة الفلسطينيين، نشهد تصاعداً في العمليات النوعية داخل الضفة والقدس، بالتوازي مع استمرار صمود غزة رغم المجازر.
عملية القدس الأخيرة جاءت لتكشف خطأ الحسابات الإسرائيلية؛ إذ ظن نتنياهو أن بإمكانه تحويل الأنظار إلى قطاع غزة وتحويل الضفة إلى منطقة آمنة نسبياً، فإذا بالمقاومة تضرب في العمق وتعيد التوازن إلى المعركة، هذا الفشل يفاقم مأزق نتنياهو الداخلي، حيث يواجه ضغطاً شعبياً متزايداً، إضافة إلى الانقسام السياسي العميق داخل حكومته، كما أن استمرار العمليات يعني أن خطته لإطالة أمد الحرب لتحقيق مكاسب شخصية باتت سيفاً ذا حدين، إذ تحوّل المجتمع الإسرائيلي إلى ساحة قلق دائم، وبذلك، يظهر نتنياهو كزعيم عاجز عن حماية مواطنيه، ما يضعف مكانته داخلياً وخارجياً.
الأثر النفسي على الجبهة الداخلية الإسرائيلية
أحد أهم نتائج هذه العمليات هو الضربة النفسية التي وجهتها إلى المجتمع الإسرائيلي، فالمستوطن الذي اعتاد على شعور الحماية داخل "أسوار الأمن" بات اليوم يواجه حقيقة أنه مستهدف حتى في قلب القدس، هذا الشعور بعدم الأمان ينعكس على معنويات الجنود أيضاً، وخصوصاً بعد مشاهد احتراق دبابة إسرائيلية ومقتل طاقمها، مثل هذه الصور تترك أثراً عميقاً يتجاوز الأرقام، إذ تعزز قناعة لدى الإسرائيليين بأن جيشهم غير قادر على حمايتهم، مهما ضخّت الحكومة من وعود وميزانيات، علاوة على ذلك، تأتي هذه التطورات في ظل أزمات داخلية خانقة يعيشها الكيان، بدءاً من الانقسامات السياسية وحتى التوترات الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الحرب الطويلة، حين يفقد المواطن الإسرائيلي الثقة بقدرة حكومته على تأمين حياته اليومية، تتزعزع الجبهة الداخلية التي تمثل ركيزة أساسية لأي حرب طويلة، وبذلك، تصبح العمليات الفلسطينية سلاحاً مزدوجاً: فهي تسقط قتلى على الأرض، وتزرع الخوف والارتباك داخل العمق الإسرائيلي.
المقاومة كخيار استراتيجي
الرسالة الأبرز التي تحملها العمليات الأخيرة هي أن المقاومة لم تعد مجرد رد فعل عاطفي أو ظرفي، بل باتت خياراً استراتيجياً للشعب الفلسطيني، فبعد أكثر من سبعة عقود من الاحتلال، يثبت الفلسطينيون أن التمسك بالمقاومة هو السبيل الوحيد لفرض معادلة الردع ومواجهة سياسات التطهير والتهجير، عملية القدس، على سبيل المثال، لم تكن حدثاً معزولاً، بل جاءت متزامنة مع صمود غزة ومع تحركات سياسية دولية مرتبطة بالقضية الفلسطينية، ما يثبت أن المقاومة تتحرك ضمن رؤية متكاملة وليست مجرد مبادرات فردية، كذلك، فإن تواصل هذه العمليات رغم الحصار والظروف القاسية يعكس إصرار الفلسطينيين على كسر معادلة "الاحتلال بلا ثمن"، كل ذلك يؤكد أن "إسرائيل"، مهما حاولت عبر أدواتها العسكرية والسياسية، لن تستطيع كسر إرادة المقاومة، بل على العكس، كل تصعيد جديد يولّد رداً أكثر قوة وتعقيداً، وهكذا تترسخ معادلة: الاحتلال مؤقت، والمقاومة خيار دائم.
في الختام، ما بين القدس وغزة، يتجلى المشهد الفلسطيني اليوم بصورة أكثر وضوحاً: احتلال يعيش على وهم القوة المطلقة، وشعب يثبت يومياً أن المقاومة قادرة على قلب المعادلة، العمليات الأخيرة ليست مجرد انتصارات ميدانية محدودة، بل هي رسائل مركبة تهزّ بنية الكيان الصهيوني من الداخل، وتضع قيادته أمام مأزق تاريخي، لقد أثبتت الأحداث أن الرهان على كسر إرادة الفلسطينيين من خلال المجازر والحصار ليس سوى سراب، وأن كل دم يسفك يزيد من جذوة المقاومة ويمنحها شرعية أوسع، في المقابل، تكشف العمليات عن هشاشة المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وعن عمق الأزمات الداخلية التي تجعل الاحتلال عاجزاً عن الاستمرار طويلاً في معركة استنزاف مفتوحة، إن ما يجري اليوم يرسخ معادلة جديدة مفادها بأن الزمن لم يعد في مصلحة "إسرائيل"، وأن استراتيجياتها القائمة على القتل والتدمير أثبتت فشلها، أمام هذه الحقيقة، يبقى الخيار الفلسطيني ثابتاً: مواصلة المقاومة حتى إنهاء الاحتلال، وهنا يكمن جوهر الرسالة التي لا يمكن أن تخطئها العين، بأن الصراع لم يعد مجرد جولات متقطعة، بل معركة وجودية ستنتهي بانتصار الحق على الباطل.