الوقت – تلوح في الأفق بوادر الاستحقاق البرلماني العراقي بعد شهرين، في خضم تصاعد غير مسبوق للحساسيات إزاء مسلك تقييم أهلية المتنافسين، وتضطلع المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، بوصفها الهيئة المخوّلة بزمام القرارات المصيرية، بفحص أهلية المرشحين بدقة متناهية، حرصاً على صون العملية وإحاطتها بسياج من القانونية والنزاهة.
بيد أن مسار إقرار الأهليات في هذا الاستحقاق قد اكتنفته، كسابقاتها، سحائب من الجدل وضجيج سياسي صاخب، إذ تكشف تقارير المراقبين عن إقصاء طيف واسع من المرشحين لأسباب متباينة، وحرمانهم من خوض غمار المعترك الانتخابي.
في هذا المضمار، أفصحت المفوضية العليا المستقلة للانتخابات العراقية يوم الأحد عن استبعاد 751 مرشحاً حتى الآن، موضحةً أن الإقصاء جاء نتيجةً لأسباب تتصل بالمساءلة والعدالة أو قضايا تتعلق بالجنايات والفساد.
وكانت المفوضية قد أعلنت سابقاً منح الكيانات السياسية والتحالفات مهلة ثلاثة أيام لتقديم بدائل عن مرشحيها المستبعدين، مشددةً على أن باب التعويض سيوصد بعد الرابع من سبتمبر/أيلول.
ويبرز بين المستبعدين وجوه بارزة في المشهد السياسي العراقي، منهم نجيف الجبوري والي نينوى، وأحمد الجبوري والي صلاح الدين، وجواد البولاني وزير الداخلية السابق والنائب الحالي في المجلس النيابي.
وأوضحت المفوضية أن الإقرار النهائي للقوائم الانتخابية سيتم في مطلع أكتوبر/تشرين الأول، محددةً التاسع من الشهر ذاته موعداً لانطلاق الحملات الدعائية التي ستستمر حتى عشية الاقتراع، ليعقبها الصمت الانتخابي، ومن المقرر أن يشهد الحادي عشر من نوفمبر/تشرين الثاني يوم الاقتراع العام.
جدير بالذكر أن مجلس النواب يمثّل الهيئة التشريعية الوحيدة في العراق، وينتخب أعضاؤه لدورة أربع سنوات عبر الاقتراع المباشر من الشعب.
تتولى “المفوضية العليا المستقلة للانتخابات” زمام تنظيم الانتخابات البرلمانية العراقية والإشراف عليها وإعلان نتائجها، ويضمّ البرلمان العراقي 329 مقعداً، خُصص منها تسعة للأقليات الدينية والعرقية، مع ضمان تخصيص ما لا يقل عن ربع المقاعد للنساء.
يقوم النظام الانتخابي العراقي على دوائر متعددة المقاعد، حيث تنقسم كل محافظة إلى عدة دوائر، ويتبارى المرشحون فرادى أو ضمن تكتلات، ويدلي الناخبون بأصواتهم للأفراد مباشرةً لا للقوائم الحزبية المغلقة، ما أذكى أوار المنافسات المحلية.
منظومة تدقيق أهلية المرشحين: صرامة وإجراءات
تمثّل آلية فحص أهلية المرشحين محوراً جوهرياً في الاستحقاق البرلماني، إذ تضطلع بها المفوضية المستقلة للانتخابات بالتعاون مع المؤسسات الأمنية والقضائية، تشمل السلطة القضائية، وهيئة النزاهة، وهيئة المساءلة والعدالة، ووزارتي الداخلية والدفاع، وجهاز المخابرات الوطني، وقوات الحشد الشعبي، ووزارة البيشمركة في إقليم كردستان.
تُرفع نتائج تحرياتهم إلى مجلس المفوضية المستقلة للانتخابات المنوط به البتّ في استبعاد المرشحين، وتكون قراراته قابلةً للطعن خلال ثلاثة أيام، وتلتزم اللجنة القانونية بالمفوضية بإصدار حكمها النهائي الملزم في غضون عشرة أيام تقريباً، وبعد المراجعة، ترفع اللجنة خلاصة أعمالها إلى المفوضية العليا للانتخابات لنشرها وإعلان أسماء المقبولين والمستبعدين.
صُممت آلية هذه اللجنة القانونية لتكون درعاً للعدالة وحصناً للشفافية وسياجاً للمعايير القانونية، وهي تضطلع بدور محوري في إضفاء المشروعية على الاستحقاق الانتخابي، كما تتيح هذه المنظومة للمراقبين المحليين والدوليين تقييم أداء المفوضية ومدى التزامها بالمعايير المرعية.
قد تفضي اتهامات بالفساد أو قضايا أخلاقية أو صلات بحزب البعث، إلى إقصاء المرشح، وفي حالات عديدة، تُعد حتى الملفات المفتوحة أو الاتهامات غير المثبتة سبباً وافياً لإبعاد المرشح عن ساحة التنافس.
في استحقاق عام 2010، طال الإقصاء نحو 499 مرشحاً بسبب صلاتهم بحزب البعث، وقوبلت تقريباً جميع الاعتراضات بالرفض، وقد تحطم في هذه الدورة الرقم القياسي للمستبعدين.
من المنظور القانوني، تستند قرارات مفوضية الانتخابات إلى أسس قانونية راسخة مستمدة من التشريعات واللوائح الانتخابية، بما فيها قانون الانتخابات المعدل رقم 12 لسنة 2018 (المعدل بالقانون رقم 4 لسنة 2023)، ونظام الشكاوى والطعون الانتخابية، وضوابط السلوك، وتعليمات تسجيل المرشحين الصادرة هذا العام.
يتم الإقصاء استناداً إلى المادة 7 من قانون الانتخابات التي تحدد شروط الترشح، ومنها “حسن السيرة والسمعة، وعدم الإدانة بجرائم خطيرة أو جرائم مخلة بالشرف أو قضايا فساد”، حتى لو شمل المرشح عفو لاحق.
يحظر قانون الانتخابات العراقي الترشح إذا انتهك المتقدم معايير الأهلية أو ارتكب جرائم انتخابية كالتحريض الطائفي، أو الاعتداء على مؤسسات الدولة، أو التشهير بالسلطة القضائية أو بالمرشحين المنافسين، أو ارتكب أفعالاً يعاقب عليها قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969.
تملك المفوضية سلطة إلغاء أهلية المرشحين بناءً على الأدلة المقدمة، ويمكنها إحالة المخالفات إلى القسم القانوني لمتابعة القضايا، وعليه، تشكّل مرحلة ما قبل الانتخابات محك اختبار حقيقي للمرشحين، وسيكون الظفر حليف الملتزمين بالقانون والمنزهين عن الشبهات.
مساعي المعارضة للتلويح بورقة المقاطعة
كدأبها في كل استحقاق، لم ترُق إجراءات الإقصاء لبعض التيارات السياسية في هذه الدورة أيضاً، وتسعى هذه الأطراف إلى اعتلاء موجة هذه القضية للطعن في شرعية الانتخابات المقبلة، ولهذه الغاية، تزعم الجماعات المعارضة أن الفصائل الشيعية مارست ضغوطاً سياسيةً على مفوضية الانتخابات لإقصاء بعض المرشحين.
أبدت هذه الأحزاب والجماعات السياسية المعارضة قلقاً بالغاً إزاء مسار الانتخابات، بل لوّحت بورقة المقاطعة، وقد دعا عمر عبدالجبار، قائد كتلة الفاو-زاخو المعارضة، الأحزاب المدنية والمعارضة إلى عقد اجتماع عاجل لبحث إمكانية مقاطعة الاستحقاق الانتخابي.
واتهم المفوضية بانتهاج سياسة الكيل بمكيالين، قائلاً إن المرشحين المنتسبين للأحزاب المتنفذة غالباً ما يُعاد قبولهم بعد إقصائهم، بينما يظل المرشحون المنتمون إلى المجموعات المدنية أو المعارضة تحت طائلة الحظر، وهو ما يعتبره ذا دوافع سياسية محضة.
وصف عباس الجبوري، المحلل السياسي، إقصاء المرشحين في هذه الدورة الانتخابية بأنه “مذهل وخارج عن المألوف”، وقال: “مبرر ‘اجتثاث البعث’ يفتقر إلى المنطق، وخاصةً بالنظر إلى أن بعض الشخصيات المستبعدة اضطلعت بأدوار محورية في معركة العراق ضد "داعش"، كثير من المستبعدين كان وراء إقصائهم دوافع سياسية، وهذه العملية تمثّل تطهيراً تنفذه مفوضية الانتخابات”.
في المقابل، تشير بعض التقارير إلى أن عدد المستبعدين بين الفصائل المقربة من الإطار التنسيقي يمثّل رقماً معتبراً أيضاً، إذ لم ينجح حتى الآن أكثر من 170 مرشحاً من هذه الفصائل في نيل الأهلية.
في هذا السياق، نفت المفوضية المستقلة للانتخابات المزاعم القائلة بأن قراراتها تخضع لتأثيرات سياسية أو تستهدف جماعات بعينها، وصرح حسن هادي زائر، عضو الفريق الإعلامي للمفوضية، بأن المرشحين استُبعدوا لعدم استيفائهم للمتطلبات المنصوص عليها في قانون الانتخابات المعدل رقم 12 لسنة 2018، وخاصةً المادة 3/7.
أكد بعض المسؤولين العراقيين أن هذه الإقصاءات تعكس التطبيق الصارم للوائح مفوضية الانتخابات والقوانين ذات الصلة، ووصف رزاق الحيدري، النائب السابق في البرلمان، قرارات المفوضية بأنها حكيمة وشجاعة، مضيفاً إنها ستعزز نزاهة الانتخابات وتقوي ثقة الجمهور بالبرلمان المقبل.
وشدّد الحيدري على أنه كان ينبغي تطبيق مثل هذه الإجراءات في الاستحقاقات السابقة من خلال فحص أهلية المرشحين وفقاً للقانون، مؤكداً: “التطبيق المتكافئ للقانون ركيزة أساسية لضمان انتخابات عادلة وتمثيل حقيقي”، كما حذّر سلام حسين، أحد أعضاء تحالف الفتح، من مغبة استخدام مصطلحات طائفية في الخطاب السياسي، مشدداً على أن ذلك يفتح باباً للتدخل الخارجي في الاستحقاق المقبل.
تمثّل انتخابات البرلمان العراقي نسيجاً متشابكاً من منافسات محلية وطائفية وحزبية معقدة، وقد أدى التركيب المعقد للدوائر، والقوانين الصارمة للأهلية، والدور البارز للمفوضية والمحكمة الاتحادية، إلى جعل الانتخابات ليست مجرد حدث سياسي، بل أيضاً ساحةً للنزاع القانوني والقضائي، وطالما أسهمت الإقصاءات الواسعة ومحدودية فرص الطعن، في إثارة الجدل حول نتائج الانتخابات.
تكتسب هذه الدورة من الاستحقاق البرلماني العراقي أهميةً استثنائيةً نظراً لتأثرها بالتحولات الداخلية والإقليمية، إذ يمكن أن ترسم ملامح التوجه السياسي للبلاد في المستقبل المنظور، وبعد سنوات من الأزمات الأمنية، والحملات السياسية والانتخابية ضد الفساد المستشري، والجهود الرامية لتقليص نظام المحاصصة في الحكومة، والسخط الشعبي المتنامي، سيشكّل مستوى المشاركة وشفافية الانتخابات مؤشراً رئيسياً لثقة الشعب بالنظام السياسي.
إن إجراء استحقاق ناجح ومنتظم من شأنه تعزيز شرعية الحكومة والبرلمان، وإرساء أساس متين للإصلاحات الهيكلية، ومكافحة الفساد، وتوطيد دعائم الاستقرار السياسي، وفي المقابل، قد تفضي أي أزمة في مسار الانتخابات أو استياء شعبي إلى جمود سياسي، وتصاعد الاحتجاجات الشعبية، وإضعاف المكانة الدولية للعراق، وعليه، فإن هذا الاستحقاق ليس مجرد اختبار للمؤسسات الانتخابية، بل فرصة سانحة لترسيخ الديمقراطية وتوطيد أركان الاستقرار، في بلدٍ يحتل موقعاً استراتيجياً حساساً في المنطقة.