الوقت- أعلنت حكومة غزّة أنّ المجاعة باتت تعمّ أرجاء القطاع، مؤكّدة أنّ أوضاعاً إنسانية غير مسبوقة تحيط بمليونين ونصف المليون إنسان محاصرين منذ سنوات طويلة، هذا التصريح يعكس مأساة متصاعدة يعيشها السكان في ظلّ عدوان صهيوني متواصل يدمّر البنى التحتية ويمنع إدخال الغذاء والدواء والمساعدات.
إنّ صورة الأطفال الذين يبحثون عن لقمة خبز، والأمهات اللواتي يعجزن عن توفير الحليب لأبنائهن، والمرضى الذين لا يجدون دواءً، تختصر حجم الكارثة التي تحاصر غزة اليوم.
غزة، التي صارت رمزاً للمعاناة كما هي رمز للمقاومة، تجد نفسها بين فكي المجاعة والعدوان، في وقتٍ يكتفي فيه العالم بمشاهدة المشهد دون أن يقدّم حلولاً جادّة أو إجراءات رادعة توقف نزيف الجوع والدم معاً.
الأمم المتحدة ودورها الغائب
وجّهت حكومة غزّة انتقاداً صريحاً إلى الأمم المتحدة، مؤكدة أنّها لا تؤدي دورها الحقيقي في وقف الكارثة الإنسانية، فرغم التقارير الدولية التي تحذّر من "مجاعة وشيكة"، ورغم الأرقام المخيفة التي تصدر عن منظمات الإغاثة، فإن الخطوات العملية على الأرض تكاد تكون غائبة، بل إنّ كثيراً من سكان غزة يرون أنّ المؤسسات الأممية أصبحت في أحسن الأحوال شاهداً صامتاً، وفي أسوأها شريكاً في الصمت المريب أمام جرائم الاحتلال.
يؤكد محللون أنّ فشل الأمم المتحدة في حماية المدنيين ليس جديداً، فقد تكرر عبر العقود في فلسطين وغيرها، حيث بقيت القرارات الدولية حبراً على ورق، دون إرادة تنفيذ أو آلية ردع، وهو ما شجع الاحتلال الصهيوني على المضي في سياساته العدوانية والحصار الخانق.
غزة.. أيقونة الصمود رغم الجراح
ورغم كلّ هذا الألم، فإن غزة لا تزال تقف شامخة. لا يمكن الحديث عن المجاعة والحصار دون التوقف أمام صورة المقاومة الفلسطينية التي باتت رمزاً للصمود في وجه آلة الحرب الصهيونية، فبينما يحاول الاحتلال أن يخضع الشعب عبر التجويع والقتل والدمار، يردّ الفلسطينيون بإرادة فولاذية وشعار واضح: "لن نستسلم".
المقاومة في غزة لم تعد مجرد حركة عسكرية، بل صارت روحاً عامة يعيشها كل بيت وكل شارع، فالشاب الذي يقتسم كسرة خبزه مع أخيه، والأم التي تحتضن أبناءها في ظلام الحصار، والمزارع الذي يزرع أرضه تحت القصف، كلهم مقاومون، هذا التلاحم بين الإنسان والأرض والمقاومة هو ما يجعل غزة عصية على الانكسار.
حصار يهدف إلى كسر الإرادة
الحصار الصهيوني المفروض على غزة منذ أكثر من 17 عاماً لم يكن يهدف فقط إلى منع الغذاء والدواء والوقود، بل كان يهدف إلى كسر الإرادة الجماعية للفلسطينيين ودفعهم نحو الاستسلام، غير أنّ السنوات أثبتت العكس؛ فكلما اشتد الحصار ازدادت غزة تمسكاً بحقها، وكلما أغلقت المعابر زادت الأصوات المطالبة بالحرية والكرامة.
التجويع سياسة قديمة في حروب الاحتلالات، لكن غزة تحوّلها إلى ساحة تحدٍّ. فالمجاعة التي تلوح اليوم ليست مجرد أزمة إنسانية، بل أداة حرب يستخدمها الاحتلال، ومع ذلك تبقى غزة شاهدة على أنّ الشعوب الحرة لا تموت جوعاً، بل تعيش بالكرامة والإيمان بقضيتها.
أبعاد إنسانية وسياسية
المجاعة في غزة لا يمكن فصلها عن سياقها السياسي، فالمساعدات الإنسانية الممنوعة عند المعابر ليست مجرد طرود غذائية، بل هي ورقة ضغط بيد الاحتلال يستخدمها للتلاعب بمصير شعب كامل، وفي المقابل، المجتمع الدولي، وعلى رأسه الأمم المتحدة، يتعامل مع الكارثة وكأنها أزمة إنسانية معزولة عن جذورها السياسية، متجاهلاً أنّ السبب الأول هو الاحتلال والحصار.
إنّ صمت العالم على معاناة غزة يشكل وصمة عار في جبين الإنسانية، ويكشف عن ازدواجية المعايير في التعامل مع القضايا العادلة للشعوب المستضعفة، فإذا كان العالم يتحرك سريعاً لأزمات أقل خطورة في أماكن أخرى، فإنه يقف عاجزاً أو متواطئاً أمام مأساة غزة المتجددة.
الإعلام وسلاح الكلمة في معركة غزة
لا تقتصر معركة غزة على الصمود الميداني أو مواجهة الجوع تحت الحصار، بل تمتد أيضاً إلى جبهة الإعلام التي تحولت إلى ساحة مقاومة موازية، فكل صورة لطفل يفتش عن كسرة خبز، وكل تسجيل يرصد أمهات يبحثن عن الدواء، وكل تقرير ينقل أصوات الجوعى تحت القصف، يتحول إلى شهادة دامغة تكسر جدار الصمت العالمي.
الإعلام المقاوم في غزة أصبح صوت المقهورين، إذ يواجه ماكينة دعائية صهيونية ضخمة تحاول قلب الحقائق وتزييف الوعي، الكلمة هنا ليست مجرد وصف للأحداث، بل سلاحاً حقيقياً يحمي الذاكرة ويمنع تضييع الحق. إنّ القلم والعدسة والميكروفون باتت جبهات لا تقل أهمية عن الميدان العسكري، فهي تحافظ على الحكاية الفلسطينية حيّة في وجدان الأمة والعالم، وتمنح المقاومة بعداً إنسانياً وأخلاقياً لا يمكن للاحتلال تجاوزه مهما حاول التعتيم.
غزة والمستقبل
ما تعيشه غزة اليوم هو اختبار قاسٍ، ليس فقط لقدرة شعب على الصمود، بل لقدرة العالم على الالتزام بقيمه المعلنة، وإذا كانت المجاعة تعكس قسوة الاحتلال، فإن استمرارها يعكس أيضاً فشل المجتمع الدولي في إنصاف الفلسطينيين. ومع ذلك، يظل المستقبل في عيون أهل غزة مرسوماً بالأمل، فهم يعلمون أنّ الليل مهما طال فلا بد للفجر أن يطلع.
غزة التي تقاتل في جبهتين – جبهة الجوع وجبهة العدوان – ترسل رسالة للعالم أنّ الشعوب لا تُهزم بالحصار، لقد جرّب الاحتلال النار والحديد، وها هو اليوم يجرب سلاح التجويع، لكنّ النتيجة واحدة: غزة تبقى، والمقاومة تبقى، والحق الفلسطيني لا يسقط بالتقادم.