الوقت- مع استمرار الحرب على غزة وتصاعد أعداد الضحايا المدنيين، تعالت أصوات دولية تطالب بوقف فوري للدعم العسكري الموجه لـ"إسرائيل"، كان أبرزها دعوة المقررة الخاصة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية، فرانشيسكا ألبانيز، التي أكدت في تقريرها الأخير أن استمرار تدفق الأسلحة إلى تل أبيب يمثل مشاركة مباشرة في جرائم قد ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
ألبانيز شددت على أن على المجتمع الدولي أن يتجاوز البيانات اللفظية المعتادة، وأن يترجم مواقفه إلى أفعال ملموسة من خلال فرض حظر كامل على مبيعات الأسلحة لـ"إسرائيل"، وقطع كل أشكال التعاون العسكري والتجاري معها، هذه الدعوة تأتي في وقت يشهد فيه قطاع غزة دمارًا واسعًا ونقصًا حادًا في الغذاء والدواء، حيث تشير تقارير المنظمات الإنسانية إلى أن عشرات الآلاف من المدنيين بينهم عدد كبير من الأطفال والنساء سقطوا ضحايا للغارات المتواصلة، وهو ما اعتبرته ألبانيز جريمة موثقة ضد الإنسانية.
ما يميز موقف المقررة الأممية أنها لم تكتف بالحديث عن مسؤولية "إسرائيل" وحدها، بل أشارت بشكل مباشر إلى مسؤولية الدول الداعمة لها عسكريًا، معتبرة أن استمرار تصدير السلاح هو مشاركة فعلية في استمرار المأساة، وقالت أمام مجلس حقوق الإنسان إن بعض الحكومات الغربية تواصل تبرير هذه المبيعات بحجة حق "إسرائيل" في الدفاع عن النفس، غير أن هذا التبرير لا يمكن أن يصمد أمام الكم الهائل من الضحايا المدنيين الذين يسقطون يوميًا في غزة، مؤكدة أن ما يحدث لا يمكن اعتباره دفاعًا عن النفس بل سياسة عقاب جماعي.
في هذا السياق، طالبت بفرض عزلة شاملة على "إسرائيل"، لا تقتصر على الجانب العسكري فحسب، بل تمتد إلى الجانب المالي والتجاري أيضًا، معتبرة أن الضغط الاقتصادي يمكن أن يكون وسيلة فعالة لإجبار تل أبيب على التوقف عن هذه العمليات.
ردود الفعل على دعوة ألبانيز جاءت متباينة، فبينما لاقت إشادة من بعض المنظمات الحقوقية والناشطين المدنيين، لم تلقَ نفس التجاوب من العواصم الغربية الكبرى، ففي بريطانيا مثلًا، أعلن زعيم حزب العمال كير ستارمر رفضه القاطع لأي خطوة لتجميد مبيعات السلاح إلى "إسرائيل"، مؤكدًا أن "لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها"، وهو الموقف الذي ينسجم مع الموقف الأمريكي الداعم بقوة لتل أبيب، لكن في المقابل، بدأت بعض التحركات الشعبية والمدنية في أوروبا تعكس تحولا ملحوظًا في المزاج العام، ففي إيطاليا قام عمال ميناء جنوى بمحاصرة سفينة سعودية كانت تنقل أسلحة في طريقها إلى "إسرائيل"، ومنعوا مرورها احتجاجًا على ما اعتبروه مساهمة مباشرة في قتل المدنيين الفلسطينيين، هذه الخطوة، وإن كانت رمزية، إلا أنها تحمل دلالات كبيرة على إمكانية تأثير الضغوط الشعبية في تغيير مواقف الحكومات أو على الأقل إحراجها أمام الرأي العام.
التحليل القانوني لمطالب ألبانيز يستند إلى قواعد راسخة في القانون الدولي، حيث إن تصدير الأسلحة إلى أطراف متورطة في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية يعد خرقًا واضحًا لالتزامات الدول بموجب اتفاقيات جنيف والقانون الدولي الإنساني، وقد سبق أن فرض المجتمع الدولي حظرًا مماثلًا في حالات أخرى، كما حدث في جنوب إفريقيا خلال فترة نظام الفصل العنصري، أو في بعض النزاعات الإفريقية حيث أصدرت الأمم المتحدة قرارات ملزمة بوقف تصدير الأسلحة، وبناء على هذه السوابق، فإن الدعوة الحالية لفرض حظر على "إسرائيل" ليست مجرد مطلب سياسي أو أخلاقي، بل تستند إلى أسس قانونية متينة.
مع ذلك، فإن العقبة الأساسية تكمن في غياب الإرادة السياسية لدى القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي تواصل تقديم دعم غير محدود لتل أبيب، وتشير تقارير صحفية إلى أن الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وكندا من أبرز موردي السلاح لـ"إسرائيل"، بل إن بعض هذه الدول سارعت بعد اندلاع الحرب الأخيرة إلى زيادة شحنات الأسلحة بذريعة الحاجة الملحة للدفاع، هذا التناقض بين الموقف القانوني والإنساني من جهة، والمصالح السياسية والاستراتيجية من جهة أخرى، يجعل من الصعب تحقيق إجماع دولي على فرض حظر شامل، لكن مع اتساع رقعة الاحتجاجات الشعبية وتصاعد الانتقادات من داخل الأحزاب المعارضة في أوروبا، قد تجد الحكومات نفسها مضطرة لإعادة النظر في مواقفها تحت ضغط الشارع والإعلام.
من الناحية الأخلاقية، تطرح دعوة ألبانيز تساؤلات عميقة حول معنى التزام المجتمع الدولي بمبادئ حقوق الإنسان، فإذا كان العالم قد تحرك لفرض عقوبات صارمة على روسيا بسبب حرب أوكرانيا، فلماذا لا يتحرك بالقوة نفسها تجاه ما يحدث في غزة؟ هذا التناقض يضعف مصداقية الخطاب الغربي ويعزز من الاتهامات بازدواجية المعايير، بل إن استمرار الدعم العسكري لـ"إسرائيل" في ظل صور الأطفال المحاصرين تحت الأنقاض قد يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يتراجع نفوذ هذه الدول في العالمين العربي والإسلامي ويزداد شعور الشارع العالمي بأن الغرب يكيل بمكيالين.
على المستوى العملي، يعتقد بعض المحللين أن وقف تدفق السلاح إلى إسرائيل لن يؤدي بالضرورة إلى إنهاء الحرب فورًا، لكنه قد يبطئ وتيرتها ويجعل الحكومة الإسرائيلية أكثر استعدادًا لقبول الضغوط السياسية والدخول في مفاوضات، في المقابل، يرى آخرون أن "إسرائيل" تعتمد بشكل كبير على صناعتها العسكرية الداخلية، وبالتالي فإن الحظر قد لا يكون فعالًا بشكل كامل، لكن المؤكد أن فرض عزلة دولية واسعة على المستوى السياسي والتجاري يمكن أن يكون له تأثير ملموس على المدى المتوسط، وخاصة إذا ترافق مع خطوات مدنية وشعبية مثل تلك التي حصلت في إيطاليا.
في الختام، يمكن القول إن دعوة فرانشيسكا ألبانيز تمثل صيحة جديدة في وجه الصمت الدولي حيال ما يحدث في غزة، وهي صيحة تستند إلى القانون الدولي وإلى الحس الإنساني في آن واحد، لكن ترجمة هذه الدعوة إلى خطوات عملية ستظل مرهونة بميزان القوى والمصالح، وبمدى قدرة الرأي العام العالمي على الضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر شجاعة.
العالم اليوم أمام اختبار حقيقي: إما أن يتحول من مجرد شاهد صامت إلى فاعل مسؤول يضع حدًا لمعاناة شعب محاصر منذ سنوات، وإما أن يظل أسير حساباته الضيقة التي تجعل حياة آلاف المدنيين الفلسطينيين رهينة لمعادلات سياسية معقدة، والرهان في النهاية سيكون على استمرار الضغوط الشعبية والإعلامية التي قد تدفع الحكومات إلى التوقف عن تزويد "إسرائيل" بما يجعلها قادرة على مواصلة حربها المفتوحة على غزة.
