الوقت – شرع علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، في تحركات دبلوماسية متعددة الأبعاد في ميدان الأمن القومي للجمهورية الإسلامية، في غضون أسابيع معدودة من تقلّده هذا المنصب الرفيع، وفي هذا المضمار، وعقب زيارته لموسكو ومباحثاته مع أقطاب الكرملين، انطلق في جولة إقليمية تشمل العراق ولبنان، تكتسي أهميةً بالغةً لتزامنها مع تصاعد وتيرة التحركات السياسية للمحور الأمريكي وحلفائه الإقليميين ضد فصائل المقاومة.
زيارة لتحصين البوابة الغربية
حفلت زيارة لاريجاني إلى العراق ببرنامج حافل، امتد من لقاءات مع صفوة المسؤولين العراقيين إلى تفقّد الترتيبات النهائية لمراسم الأربعين الحسيني، ومتابعة أحوال الزوار الإيرانيين المتوجهين صوب مرقد سيد الشهداء (عليه السلام) في أرض العراق.
بيد أن الجانب الأكثر إشراقاً في زيارة لاريجاني تمثّل حتماً في توقيع مذكرة التعاون الأمني بين طهران وبغداد، التي أبرمت بين البلدين قبل عامين، وشُرع في تنفيذها منذ ذلك الحين.
وأكد لاريجاني على أهمية التعاون الأمني بين البلدين ودور هذه الاتفاقية في تعزيزه قائلاً: “تُمهّد الاتفاقية الأمنية بين إيران والعراق، أرضيةً صلبةً لأمن مستدام لكلا البلدين، نتطلع إلى تحقيق هذه الاتفاقية بشكل كامل ومتابعتها من قبل الأجهزة الأمنية المختلفة، كما وُضعت آلية للإشراف على تنفيذها، ستسهم بعون الله في استدامة الأمن بين البلدين الشقيقين".
تضمنت أهم بنود الاتفاقية الأمنية بين إيران والعراق، التي وُقعت في الـ 19 من مارس 2023 بين علي شمخاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني آنذاك، وقاسم الأعرجي، مستشار الأمن القومي العراقي، بحضور محمد شياع السوداني رئيس وزراء العراق، وضع حد نهائي لوجود العناصر الإرهابية والجماعات المناوئة لإيران في إقليم كردستان.
لم يُكشف النقاب عن نصّ الاتفاقية الأمنية بين إيران والعراق حتى الآن، لكن وفقاً لتصريح باسم العوادي، المتحدث باسم الحكومة العراقية، وقّعت طهران وبغداد اتفاقيةً لسدّ منافذ عبور الإرهابيين الأكراد من العراق إلى إيران، وتسليم المطلوبين للعدالة، ونزع فتيل الخطر بتجريد هذه الجماعات من أسلحتها وتقويض معسكراتها، ومن أبرز هذه الجماعات الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحزب كومله، وحزب بيجاك، المتمركزة في شمال محافظة أربيل وشرق محافظة السليمانية.
تشترك إيران والعراق في شريطٍ حدودي طويل يمتد لنحو 1450 كيلومتراً، يتاخم أكثر من 500 كيلومتر منها إقليم كردستان العراق، وعليه، يتجلى بوضوح أن العراق يتبوأ مكانةً بالغة الخطورة والأهمية في المحيط الأمني المحيط بإيران، ويُعد بمثابة بوابتها الأمنية الغربية المنيعة.
لطالما شكّلت أنشطة الزمر الإرهابية المعادية والانفصالية، التي تتخذ من أراضي كردستان العراق، ولا سيما محافظة السليمانية، وكراً لها، تحدياً أمنياً لإيران، خصوصاً في المحافظات المتاخمة للحدود. غير أنه في ظل المشهد الإقليمي المستجد، ولا سيما في أعقاب حرب الأيام الاثني عشر بين إيران والكيان الصهيوني، ينبغي إيلاء عناية فائقة للمخاطر المحدقة والكامنة التي تتهدد استقرار وأمن إيران من جراء أنشطة هذه الجماعات، ويمكن القول إن زيارة لاريجاني للعراق في هذا المنعطف التاريخي، تندرج في إطار متابعة هذه الأولوية الأمنية القصوى.
نُفّذ قسم کبير من عمليات الاغتيال الإسرائيلية والهجمات على المنشآت العسكرية والمدنية والبنى التحتية لإيران خلال هذه الحرب، عبر عملاء الموساد وجواسيسهم ومرتزقتهم، وقد أماطت تجارب السنوات المنصرمة اللثام عن أن الحدود الغربية والأنشطة المأجورة للجماعات المسلحة، كانت إحدى المسالك الرئيسية لتهريب الأسلحة والمعدات والجواسيس إلى إيران.
وتشير تقديرات الأجهزة الاستخباراتية والأمنية والتحليلات الاستراتيجية لمراكز البحوث، إلى أن أحد الأهداف الرئيسية للولايات المتحدة والكيان الصهيوني، سواء في حرب الأيام الاثني عشر أو في المستقبل المنظور، هو تأجيج نيران الأنشطة الانفصالية وإثارة الاضطرابات الداخلية، ومن هذا المنطلق، أضحت مجابهة هذه الأنشطة وإبرام الاتفاقيات مع العراق للتصدي لوجود هذه الجماعات، في صدارة أولويات جدول أعمال مجلس الأمن القومي الإيراني حالياً.
وفي هذا السياق، أعرب لاريجاني خلال لقائه مع قاسم الأعرجي، مستشار الأمن القومي العراقي، عن ارتياحه لإرادة الجانب العراقي في صون الأمن المستدام لإيران، قائلاً: “استشعرت خلال المباحثات وجود هذه الإرادة الصلبة لدى أشقائنا العراقيين، ونحن أيضاً عازمون عزماً راسخاً، وسيسهم الاتفاق في هذا الشأن إسهاماً جليلاً في تنمية أواصر تعاوننا مع العراق في شتى المجالات”.
من جانب آخر، برهنت حرب الأيام الاثني عشر على صحة مخاوف إيران وتحذيراتها بشأن الوجود العسكري الأمريكي المريب والمزعزع للاستقرار في العراق، والعراقيل التي تضعها واشنطن في طريق استقلال العراق الدفاعي، ولا سيما في مجال منظومات الدفاع الجوي والسيطرة على الأجواء، ما يتيح للكيان الصهيوني تهديد أمن الأراضي الإيرانية، فقد نفذت القوات الجوية للكيان الصهيوني شطراً وافراً من هجماتها على الأراضي الإيرانية عبر الممر الجوي الذي فتحته الولايات المتحدة لمقاتلات الکيان وطائراته المسيرة من الأردن وسوريا والعراق، وحتى في كثير من الحالات، أطلقت مقاتلات الکيان الصهيوني قذائفها من أجواء العراق باتجاه الأهداف المحددة في الأراضي الإيرانية، خشيةً من القدرات الدفاعية الصاروخية للجمهورية الإسلامية.
ثمة قضية أخرى تتعلق بالالتفات إلى التهديدات الإقليمية المشتركة التي تتربّص باستقرار وأمن المنطقة، حيث يُعد التعاون بين البلدين في هذا المضمار ضرورةً حتميةً وخياراً استراتيجياً، فبعد سقوط حكومة بشار الأسد في سوريا، تعاني هذه الدولة، الواقعة تحت سيطرة تكفيريي هيئة تحرير الشام، من دوامة عدم الاستقرار وأزمات أمنية متفاقمة، كما تلفّ الضبابية آفاق تطورات هذا البلد في ظل التدخلات العسكرية السافرة للكيان الصهيوني والصراعات العرقية والطائفية المستعرة.
وفي هذا الخضمّ، أثارت تجربة ظهور "داعش" وتدفق الإرهابيين من الأراضي السورية، مخاوف العراقيين العميقة بشأن تطورات هذا البلد، غير أن التحركات التي تُدار في الأشهر الأخيرة من البيت الأبيض ضد قوات الحشد الشعبي، باعتبارها ذراعاً أمنيةً ضاربةً للعراق، تستدعي يقظةً أكبر من قبل صناع القرار العراقيين، ويمكن أن تشكّل محوراً رئيسياً في مباحثات ومشاورات لاريجاني والمسؤولين العراقيين بشأن الأوضاع الإقليمية المتقلبة.
رسالة حضور لاريجاني في لبنان
واصل لاريجاني جولته الإقليمية متوجهاً إلی بيروت، عاصمة لبنان، التي تواجه هذه الأيام تحديات جسيمة، ويمرّ وضع المقاومة فيها بمنعطف تاريخي حاسم.
على الرغم من أن تشكيل الحكومة الجديدة بعد جمودٍ استمرّ عامين، أحيا الآمال في عودة الهدوء والاستقرار إلى هذا البلد ومعالجة الأولويات الاقتصادية الملحة، مثل قضية إعادة إعمار ما دمّرته آلة الحرب الصهيونية خلال 66 يوماً، إلا أن الأيام الأخيرة قد شهدت، مع الإجراء المثير للجدل الذي اتخذته حكومة جوزيف عون بإقرار مشروع أمريكي صرف لنزع سلاح حزب الله وإبلاغه للجيش، عودة آفاق الاستقرار السياسي والأمني في لبنان إلى دائرة الغموض والضبابية مجدداً.
أعلن حزب الله، الذي كان على مرّ العقود المنصرمة مرساة الاستقرار وصمام الأمان لحدود لبنان في مواجهة عدوانية "إسرائيل"، وحمل على كاهله أعباء واجبات الجيش، أنه لن ينصاع لهذا القرار الجائر (بسبب انسحاب الوزراء الشيعة من جلسة مجلس الوزراء وغياب الإجماع الوطني)، ولن يسمح بتحقيق مؤامرة العدو الأمريكي والصهيوني ضد المقاومة.
وفي خضمّ هذه المواجهة غير المسبوقة بين الحكومة وحزب الله، يحذّر الخبراء بإلحاح من العواقب الوخيمة المزعزعة للاستقرار جراء محاولات الحكومة والجيش تشديد الخناق على حزب الله، وتداعياتها على النسيج الاجتماعي والاستقرار الداخلي في لبنان.
وفي ظل هذه الظروف العصيبة، تكتسي زيارة لاريجاني إلى بيروت أهميةً بالغةً من جوانب متعددة:
أولاً، يحمل قبول الحكومة اللبنانية لزيارة لاريجاني في هذا المنعطف الدقيق، رسالةً جليةً مفادها بأن حكومة جوزيف عون تدرك في قرارة نفسها عجزها عن تنفيذ القرار الذي أقرته، وتستشعر القلق العميق إزاء عواقبه المزعزعة للاستقرار، ولهذا السبب، وفي حين اعتبر وزير الخارجية اللبناني مؤخراً مواقف المسؤولين الإيرانيين تدخلاً في الشؤون الداخلية لهذا البلد، فإن استقبال لاريجاني يعكس تعويل القيادات الحكومية على دور الجمهورية الإسلامية الإيرانية كوسيط للخروج من المأزق الذي أوقعوا أنفسهم فيه، بقبولهم إملاءات الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية.
ثانياً، إعلان دعم الجمهورية الإسلامية الراسخ للحفاظ على أمن واستقرار ووحدة أراضي لبنان بكافة أطيافه ومكوناته، في إطار سياسة إيران الثابتة والمبدئية تجاه تطورات هذا البلد، والتشاور مع مختلف الأطراف اللبنانية لرأب الصدع وتجسير الهوة بين الفرقاء على أساس الوقائع الجارية في المنطقة، والمخاطر الأمنية المحدقة التي تتهدد استقرار لبنان من جانب الكيان الصهيوني.
إن تحول قضية نزع سلاح حزب الله إلى أزمة داخلية، قد يفضي إلى صراعات طائفية مستعرة أو حتى حرب أهلية طاحنة، وهو سيناريو يصبّ في خانة مصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، لذا، أكد لاريجاني لدى حلوله ببيروت أن غاية هذه الزيارة هي تحقيق مصالح لبنان، قائلاً: “معاناة لبنان تمزق نياط قلوبنا، سنقف إلى جانب لبنان في السراء والضراء وفي كل المنعطفات”.
ثالثاً، ضرورة الحفاظ على وحدة وتماسك البيت الشيعي في لبنان في هذه المرحلة العصيبة وفي هذا المشهد المفصلي تحديداً، إذ من المؤكد أن أعداء المقاومة يسعون بكل ما أوتوا من دهاء لإحداث شرخ في جدار الوحدة بين القوى الشيعية (حزب الله وحركة أمل)، حتى الآن، كانت مواقف نبيه بري، رئيس البرلمان وزعيم حركة أمل، في دعم مشروعية ومصلحة سلاح حزب الله لأمن لبنان، ذات أثرٍ بالغ في تقويض مساعي المعارضين وإحباط مخططاتهم.
وأخيراً، في أعقاب حرب الأيام الاثني عشر، تُعاد صياغة موازين القوى ومكانة كل فاعل إقليمي، وتنبثق هذه الزيارة كمسعى لترسيخ حضور إيران كصانع للاستقرار في معادلات لبنان المعقدة، وإشهاد العالم أن بيروت لا تزال جزءاً من محور المقاومة.