الوقت- رحل بشار الأسد عن الحكم بعد أكثر من عقدين من السيطرة المطلقة على مفاصل الدولة والمجتمع. طويت صفحة امتدت لسنوات من الحرب والانقسامات. ومع هذا الحدث الجوهري، تدخل سوريا مرحلة جديدة محفوفة بالتحديات، ومفتوحة على احتمالات واسعة، بعضها واعد، وأكثرها محفوف بالمخاطر.
لكن السؤال الجوهري اليوم لم يعد: "ماذا لو غاب الأسد؟" بل: "كيف ستنهض سوريا من تحت أنقاض حكمه؟" وهل سينجح السوريون في استعادة دولتهم، وبناء نظام جديد، يعيد الاعتبار للمواطنة والكرامة والعدالة؟
النظام بعد الأسد: هل تغير الجوهر أم تبدّل الشكل فقط؟
رحيل بشار الأسد لا يعني بالضرورة زوال النظام الذي بناه. كثير من أركان السلطة القديمة لا يزالون موجودين في مواقع النفوذ، سواء في مؤسسات الدولة أو في الأجهزة الأمنية والاقتصادية. لذلك فإن سوريا اليوم لا تواجه فقط تحدي بناء سلطة جديدة، بل تفكيك بقايا نظام عميق تحكّم لعقود في مصير البلاد.
لكن في المقابل، شكّل سقوط الأسد لحظة رمزية فارقة، فتحت المجال أمام قوى سياسية واجتماعية كانت مهمّشة أو مقموعة، للظهور مجدداً إلى الساحة، ومحاولة إعادة تشكيل المشهد وفق أسس جديدة.
الفراغ السياسي: ساحة تتنازعها القوى
برحيل الأسد، وجدت سوريا نفسها أمام فراغ سياسي هائل. لم تكن هناك مؤسسات منتخبة ولا انتقال منظّم للسلطة. خلال الأسابيع الأولى، شهدت البلاد حالة من الفوضى السياسية، وسباقاً محموماً بين القوى الداخلية لتثبيت مواقعها.
ظهر أكثر من "مجلس انتقالي" في مناطق مختلفة، وتشكّلت تحالفات محلية بين نخب مدنية وأخرى عشائرية، وبرزت شخصيات من داخل النظام السابق تروّج لخيار الإصلاح التدريجي، فيما دعت قوى ثورية ومعارضة إلى قطيعة شاملة مع الماضي.
لكن المشكلة أن هذه القوى، رغم تعددها، لم تمتلك مشروعاً وطنياً موحّداً، ما جعل مرحلة ما بعد الأسد مرشحة لمزيد من التجاذب والانقسام، إذا لم تُحسم سريعاً عبر توافق وطني واسع.
المجتمع السوري: جراح عميقة وهويات متنازعة
خلفت سنوات الحرب والدمار مجتمعاً مفككاً ومنهكاً. الطائفية، والتهجير، والانقسام الجغرافي، كلها أدّت إلى إنتاج هويات فرعية متصارعة، بعد رحيل الأسد، لم تختفِ هذه التصدعات، بل برزت بشكل أوضح في غياب سلطة مركزية قوية.
لا يزال جزء من السوريين يشعر بالخذلان، وآخرون بالخوف من الانتقام، وثالثون ينتظرون تحقيق العدالة، هذا الواقع الاجتماعي الهشّ يشكل التحدي الأكبر في إعادة بناء سوريا جديدة، فمن دون مصالحة وطنية شاملة، لا يمكن لأي مشروع سياسي أن ينجح.
يتطلب الأمر عملية متأنية للعدالة الانتقالية، تكشف الجرائم، وتعوّض الضحايا، دون أن تنزلق البلاد إلى دوامة الانتقام أو الإقصاء.
الاقتصاد السوري: دولة على حافة الانهيار
حين غادر الأسد السلطة، ترك وراءه اقتصاداً منهاراً بالكامل، الليرة فقدت قيمتها، التضخم تجاوز كل الحدود، البنية التحتية مدمّرة، ونصف الشعب يعيش تحت خط الفقر.
في هذه المرحلة، لم يكن أمام الحكومة الانتقالية سوى اتخاذ إجراءات إسعافية سريعة: ضبط الأسواق، توفير السلع الأساسية، إعادة فتح الطرق والمعابر، واستعادة الثقة لدى الناس.
لكن التعافي الاقتصادي الحقيقي يحتاج أكثر من ذلك، يحتاج إلى استقرار سياسي طويل الأمد، وإلى إعادة الإعمار، وإلى ضخ استثمارات داخلية وخارجية، وكل ذلك مرتبط بقدرة الدولة الجديدة على توفير بيئة قانونية شفافة، وإصلاح المنظومة المالية، وكسر شبكة الفساد القديمة.
الدولة العميقة: التحدي الذي لا يُرى
رحيل الأسد لم يُنهِ النفوذ المتجذّر لأجهزة الدولة العميقة التي نشأت خلال سنوات حكمه، كثير من مسؤولي الأمن، ورجال الأعمال، والإداريين الكبار لا يزالون يحتفظون بمواقعهم، ويعملون على إعادة تدوير أنفسهم داخل المرحلة الجديدة.
هذا التسلل الصامت يشكّل خطراً على مسار التحوّل الديمقراطي، فمن دون إصلاح شامل في بنية الدولة، وتطهير مؤسساتها من رموز الفساد والاستبداد، تبقى أي حكومة جديدة مهددة بالشلل أو الإجهاض المبكر.
لذلك فإن أحد المفاصل الأساسية لنجاح "سوريا ما بعد الأسد" هو التزام واضح بإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، لا فقط على مستوى الأشخاص، بل على مستوى العقيدة والسياسات والإجراءات.
الشتات السوري: طاقة مُعطّلة تنتظر الانخراط
يوجد خارج سوريا اليوم ملايين السوريين ممن هجّرتهم الحرب، معظمهم فقدوا الثقة بالدولة، لكن الكثير منهم لا يزالون يحتفظون بالرغبة في المساهمة بإعادة الإعمار، سياسياً واقتصادياً.
إن أي مشروع وطني حقيقي يجب أن يُشرك هذه الجالية الضخمة، ويعيد لها الثقة، ويمنحها مكاناً في القرار، لا أن تُعامل كعبء إنساني فقط.
فمن دون مشاركة السوريين في الشتات، ستبقى إعادة بناء سوريا ناقصة، وستفقد البلاد رافعة معرفية واقتصادية كبيرة.
الهوية الإقليمية لسوريا بعد الأسد: بين الغياب وإعادة التموضع
لطالما ارتبط الدور الإقليمي لسوريا بشخص الرئيس، لا بمؤسسات الدولة، ومع رحيل بشار الأسد، لم تفقد دمشق فقط رأس نظامها، بل فقدت أيضاً الكثير من قدرتها على التأثير في المعادلات الجيوسياسية من حولها. فاليوم، تبدو سوريا دولة منكمشة، منشغلة بترتيب بيتها الداخلي، بينما تتغير خرائط القوة من حولها في الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، يطرح السؤال نفسه: هل ستتمكن سوريا الجديدة من استعادة موقعها كفاعل إقليمي؟ أم إنها ستتحول إلى ساحة نفوذ تتقاسمها القوى الكبرى؟ الجواب رهن بمدى قدرة السوريين على إنتاج نظام سياسي مستقل، يعكس تطلعات الشعب، ويُحسن بناء علاقات متوازنة مع محيطه، بعيداً عن التبعية أو الاستقطاب.
هل تولد الدولة من بين الأنقاض؟
انتهى عهد الأسد، لكن لا تزال سوريا تبحث عن نفسها، الفرصة اليوم متاحة، رغم التحديات، للانطلاق نحو بناء دولة مدنية حديثة، قائمة على المواطنة، والفصل بين السلطات، وسيادة القانون.
لكن هذا التحوّل لن يكون سهلاً. فبناء الدولة يتطلب شجاعة في مواجهة الماضي، وتوافقاً حول المستقبل، وقدرة على تجاوز الجراح العميقة التي خلّفها الصراع.
الطريق طويل، لكنه ممكن، وسوريا تستحق هذا الأمل.