الوقت- في الوقت الذي يفترض فيه أن تمثل نقاط توزيع المساعدات الإنسانية شريان حياة للسكان المدنيين المحاصرين، تحوّلت في قطاع غزة إلى مصائد موت سادي، بفعل ما وصفه المفوض العام لوكالة الأونروا، فيليب لازاريني، بأنه "فخ مميت" صنعته "إسرائيل" عن قصد، وبدعم مباشر من الولايات المتحدة، وبمباركة صمت دولي مخجل.
مشهد من الجحيم
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة في الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، لم تتوقف آلة القتل، بل توسعت وتشكلت بأبشع صورها في استهداف متعمّد للجوعى والعطشى، الذين أجبرهم الحصار والإبادة على التزاحم عند نقاط توزيع المساعدات، اللافت، بل الصادم، أن كثيراً من هذه النقاط تحوّلت إلى مسارح لإطلاق نار مباشر من قبل قناصة الجيش الإسرائيلي، ما أسفر عن مقتل المئات من المدنيين أثناء محاولتهم الحصول على فتات غذاء أو زجاجة ماء.
وفي تعبير بالغ القوة، قال لازاريني: "البحث عن الطعام أصبح مميتاً كالقصف"، مشيراً إلى مقتل أكثر من 1000 شخص جائع منذ نهاية مايو/أيار 2025، وذهب أبعد من ذلك حين وصف ما تُسمى "مؤسسة غزة الإنسانية" - التي تروج لها "إسرائيل" كمنصة لتقديم الإغاثة - بأنها "فخ موت سادي"، حيث يُطلق القناصة النار عشوائيًا على الحشود "كما لو كان مسموحًا لهم بالقتل".
دعم أمريكي وتواطؤ دولي
ليست هذه الانتهاكات معزولة أو عشوائية، بل تأتي ضمن نمط ممنهج ومدعوم سياسيًا وعسكريًا من الولايات المتحدة، التي تواصل تزويد "إسرائيل" بالسلاح والذخيرة، حتى في ظل تقارير موثقة عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة، الدعم الأمريكي لا يقتصر على الصعيد العسكري، بل يمتد إلى المحافل الدولية، حيث تعطل واشنطن، مرارًا، أي محاولة لإدانة "إسرائيل" أو اتخاذ إجراءات حاسمة لوقف القتل.
الأكثر فداحة هو هذا الصمت الدولي المطبق، الذي عبّرت عنه رئيسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ميريانا سبولياريتش، بالقول: "كل تردد سياسي، وكل محاولة لتبرير الفظائع... سترسّخ في ضمير العالم صورة الفشل الجماعي في الحفاظ على أدنى قدر من الإنسانية".
مأساة إنسانية ممنهجة
غزة التي تعاني حصارًا خانقًا منذ 18 عامًا، باتت اليوم أمام مستوى جديد من الموت المنظم، أكثر من 1.5 مليون إنسان أصبحوا بلا مأوى، ومئات الآلاف يعيشون على أنقاض منازلهم، بينما تتفاقم أزمة الجوع لتصبح السلاح الأشد فتكًا في ترسانة الاحتلال.
وتشير تقارير الأونروا إلى أن أكثر من 76 طفلًا قضوا جوعًا حتى الآن، في ظل الحصار الإسرائيلي المطبق، وإغلاق المعابر بشكل شبه تام منذ أكثر من أربعة أشهر، وما يزيد من هول المأساة، أن شاحنات المساعدات المتكدسة على الحدود، والمكدسة في مستودعات الأونروا، لا يُسمح لها بالعبور إلى غزة، رغم أن هذه المساعدات تكفي - حسب الوكالة - لإطعام سكان القطاع لثلاثة أشهر.
استهداف ممنهج للعاملين في الإغاثة
لم يسلم العاملون في المجال الإنساني من هذا الجحيم، الأطباء والممرضون والصحفيون، والعاملون في الوكالات الأممية، يواجهون الجوع والعطش والقتل، كثيرون منهم يُغمى عليهم أثناء أداء مهامهم، وبعضهم قضى برصاص القناصة الإسرائيليين.
وقال لازاريني في منشور صادم: "المساعدة الإنسانية ليست عمل المرتزقة"، وأضاف: "مطاردة جماعية وسط إفلات تام من العقاب"، في إشارة إلى غياب أي مساءلة دولية لـ"إسرائيل" رغم ارتكابها جرائم ممنهجة أمام كاميرات الإعلام وشهادات الشهود وتقارير المنظمات الحقوقية.
سياسة تجويع ممنهجة
ما يجري في غزة يتجاوز مجرد الإهمال أو التراخي؛ إنه تنفيذ صريح لسياسة تجويع جماعي تهدف إلى إخضاع السكان عبر سلاح الجوع، وفي هذا السياق، قال لازاريني بوضوح: "كل هذا من صنع الإنسان، في ظل إفلات تام من العقاب".
ويبدو أن "إسرائيل" تستخدم المساعدات كسلاح تفاوضي وضغط سياسي، ففي الوقت الذي تعلن فيه أنها تفتح المعابر بشكل جزئي، تُفرض قيود تعجيزية على شاحنات الإغاثة، وتُمنع دخول الوقود والمعدات الطبية والمياه، كما أن أغلب محاولات تنسيق التحركات الإنسانية تُقابل بالرفض أو الإعاقة، ما يشلّ قدرة المنظمات على تقديم المساعدة حتى في الحالات الحرجة.
مأساة أطفال غزة: موت بطيء أمام العالم
ربما تكون مأساة الأطفال أبلغ وجوه هذه الكارثة الإنسانية، أطفال غزة، الذين ولدوا في ظل الحصار، يعيشون اليوم تحت نار الحرب وسيف الجوع، لا غذاء، لا دواء، لا مأوى، ولا أمل، وفي وقت تتردد فيه عبارات "الشرعية الدولية" و"القانون الدولي الإنساني"، يسقط الأطفال واحدًا تلو الآخر، وسط صمت عالمي لا يرقى حتى إلى الإدانة الرمزية.
الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر
دقت الأمم المتحدة ناقوس الخطر في أكثر من مناسبة، محذرة من أن قطاع غزة على أعتاب "موت جماعي"، لكن دون أن يُترجم ذلك إلى فعل سياسي أو قرار رادع، وبينما تحذر المنظمات الإنسانية من الانهيار الشامل، تواصل "إسرائيل" فرض قيودها، بدعم أمريكي سياسي وعسكري، وبصمت أوروبي ودولي لم يسبق له مثيل.
المفوض العام للأونروا قال بصراحة: "الأمم المتحدة وشركاؤها يمتلكون الخبرة والموارد لتقديم مساعدة آمنة وكريمة وعلى نطاق واسع"، لكن العقبة الوحيدة أمام ذلك هي "الإرادة السياسية الإسرائيلية"، مدعومة بفيتو أمريكي يمنع أي تدخل دولي فاعل.
مسؤولية أخلاقية وإنسانية
ما يجري في غزة اليوم ليس مجرد أزمة إنسانية؛ إنه اختبار للعالم بأسره، ولا سيما للمنظومة الدولية التي بُنيت بعد الحرب العالمية الثانية على أنقاض الفظائع النازية، وعلى مبادئ حقوق الإنسان والكرامة والعدالة، وإذا كانت تلك المبادئ لا تجد اليوم سبيلًا للتطبيق في غزة، فإن مصداقيتها تصبح على المحك.
الصمت في مواجهة فخ الموت هذا هو تواطؤ، وكل تبرير لصمت الدول الكبرى هو مشاركة في الجريمة، فحين تُحوَّل المساعدات إلى كمائن للقتل، وتُمنع عن الجوعى، ويُستهدف مقدمو الرعاية، ولا يُحاسب أحد، فإن العالم قد دخل فعلًا مرحلة السقوط الأخلاقي الحرّ.
ختام القول
في ظل هذه المأساة المركبة، لا يكفي التعاطف ولا التنديد، بل المطلوب موقف دولي حازم لوقف إطلاق النار فورًا، وإدخال المساعدات دون قيود، ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، إن ما يجري في غزة ليس مجرد انتهاك للقانون الدولي، بل جريمة مكتملة الأركان تُرتكب على الهواء مباشرة، والسكوت عنها هو جريمة أخرى.
فخ الموت السادي في غزة لن يُمحى من ذاكرة البشرية، وسيبقى شاهدًا على عار الصمت، وخذلان العالم للضحايا الذين لم يطلبوا سوى أن يأكلوا ليعيشوا.