الوقت- في تطور لافت يعكس مواقف جديدة وربما متغيرة داخل الطيف السياسي السوري المعارض أو ما يُصطلح عليه بـ "سوريا ما بعد الأسد"، خرج تصريح حمل نبرة حادة قال فيه أحد الناشطين أو المتحدثين: "نحن الأغلبية، ونفعل ما نشاء".
عبارة قصيرة، لكنها تحمل في طيّاتها دلالات سياسية واجتماعية خطيرة، تستحق التوقف والتحليل، فهل نحن أمام رؤية جديدة لإدارة سوريا في مرحلة ما بعد سقوط النظام الحالي؟ أم إننا بصدد إعادة إنتاج الاستبداد بنسخة أخرى؟ وكيف سيتعامل الداخل السوري، والمجتمع الدولي، مع هذا المنطق الذي قد يعمّق الانقسامات؟
بين "الأغلبية" والهيمنة: قراءة أولية في مضمون التصريح
العبارة المذكورة تستند إلى مفهوم "الأغلبية"، الذي غالباً ما يُستخدم لتبرير قرارات سياسية أو إقصاء خصوم في سياقات ديمقراطية، لكن حين يُقرن بـ"نفعل ما نشاء"، تتحول هذه العبارة من تعبير عن القوة الديمقراطية إلى تعبير عن شهوة سلطة قد تكون لا تقل استبداداً عن الأنظمة التي ثارت عليها شعوب الربيع العربي.
إن التأكيد على "الأغلبية" من دون الاعتراف بحقوق الأقليات، أو أهمية التعددية السياسية والطائفية والمجتمعية، يشير إلى عقلية مغلقة تعتبر أن شرعية القوة وحدها كافية لفرض إرادتها، ما ينذر بتكرار مآسي الماضي في ثوب جديد.
الهوية الوطنية السورية على المحك
لقد دفعت سوريا ثمناً باهظاً خلال العقد الماضي نتيجة الانقسامات الطائفية والعرقية والمناطقية، وشهدت البلاد تفككاً في الهوية الوطنية الشاملة لمصلحة هويات فرعية (علوية، سنّية، كردية، شيعية، درزية، مسيحية...)، وميول انفصالية أو تمييزية في الخطاب السياسي والميداني.
من هنا، فإن أي حديث عن "نحن" مقابل "الآخرين"، خصوصاً في مرحلة ما بعد الأسد، يجب أن يُقارب بحذر بالغ، فهل نحن أمام مشروع وطني شامل، أم أمام محاولة فرض هيمنة طرف واحد على باقي مكوّنات الشعب السوري؟
إن إعادة بناء سوريا تحتاج إلى خطاب جامع لا يستند إلى مبدأ "الأغلبية تحكم"، بل إلى عقد اجتماعي جديد يُنصف الجميع، ويضمن الحقوق المتساوية لكل المواطنين بصرف النظر عن خلفياتهم العرقية أو الدينية أو المناطقية.
من الثورة إلى السلطة: هل تغيّر الخطاب أم انكشفت النوايا؟
منذ انطلاقة الثورة السورية عام 2011، رفعت الشعارات التي تمجّد الحرية، والعدالة، والكرامة لكل السوريين، بعيداً عن الطائفية والإقصاء، لكن مع تطور الأحداث وبروز فصائل متعددة وتعدد المرجعيات السياسية والدينية، بدأ الخطاب ينزاح تدريجياً نحو لغة الاستحواذ والهيمنة، لدى بعض الأطراف المحسوبة على المعارضة.
التصريح القائل "نحن الأغلبية ونفعل ما نشاء" قد لا يكون مجرد زلّة لسان، بل ربما يعكس تحوّلاً في ذهنية بعض القوى التي انتقلت من موقع الثورة إلى موقع التفكير في السلطة، لا بوصفها أداة لتحقيق العدالة، بل وسيلة للسيطرة.
هذا التحوّل يُهدد بنسف جوهر الثورة، ويطرح تساؤلات جوهرية: هل بات البعض يرى في سقوط النظام مجرد فرصة لوراثته لا لتجاوزه؟ وهل نحن أمام مشروع "تغيير وجوه" أم تغيير حقيقي في البنية السياسية؟
سوريا المستقبل: ديمقراطية توافقية أم ديكتاتورية الأكثرية؟
التجارب السياسية في دول العالم، خاصة في الدول الخارجة من صراعات أهلية، أثبتت أن الديمقراطية التوافقية أكثر فعالية في الحفاظ على الاستقرار من ديمقراطية الأغلبية العددية، وخصوصاً عندما تكون التركيبة السكانية معقدة كما هو الحال في سوريا.
إنّ القول بأن "نحن الأغلبية ونفعل ما نشاء"، يعكس عقلية ترفض التوافق، ولا ترى في التعددية مصدر غنى، بل مصدر تهديد، هذه النظرة قد تقود إلى ما يمكن وصفه بـ"ديكتاتورية الأكثرية"، أي استخدام الآليات الديمقراطية لتهميش الآخر وليس لضمان مشاركته.
في هذا السياق، يبدو أن سوريا بحاجة إلى مرحلة انتقالية تُبنى على أسس الشراكة الحقيقية بين المكوّنات، لا على مبدأ الغلبة والاستقواء.
المجتمع الدولي ودوره في رسم ملامح سوريا المقبلة
من المعروف أن التحول السياسي في سوريا، سواء جاء عبر تسوية سلمية أو تغييرات ميدانية، لن يكون بمعزل عن الدور الإقليمي والدولي، المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة والدول الفاعلة، سيكون معنياً بشكل مباشر بصياغة العقد السياسي الجديد.
لذلك، فإن أي خطاب يُفهم على أنه استبدادي أو إقصائي، حتى لو جاء من قوى تصف نفسها بالثورية أو المعارضة، سيضعف شرعيتها الدولية، وسيؤدي إلى تخوّف شركاء سوريا من دعم مشروع سياسي لا يضمن التعدد والعدالة والمساواة، وفي ظل ازدياد التجاذب بين القوى الدولية، فإن إضعاف مشروع "سوريا الجامعة" سيُعزز منطق التقسيم والانفصال، ويمنح الأنظمة القمعية حججاً جديدة للبقاء تحت ذريعة "محاربة التطرف أو الفوضى".
خطر الخطاب الثأري وإعادة إنتاج الاستبداد
التصريحات التي تتحدث عن "فعل ما نشاء" تعكس في جوهرها نزعة انتقامية لا تُبشر بمستقبل مستقر، فالثورات ليست فقط لتغيير الأنظمة، بل لتغيير العقليات.
لقد سقط نظام الأسد في عيون الكثيرين، ليس لأنه ينتمي إلى أقلية، بل لأنه أقصى الآخرين واحتكر السلطة والثروة، وبالتالي فإن استبداله بنظام آخر يستند إلى "شرعية الأكثرية" ليمارس الممارسات ذاتها، سيكون كارثة أخلاقية وسياسية، ما تحتاجه سوريا هو خطاب إنساني مدني يُعيد للمواطن كرامته، ويضمن له حقوقه، ويُزيل الانقسامات العميقة التي زرعتها الحرب.
أي سوريا نريد؟
إن التصريح الذي يقول "نحن الأغلبية ونفعل ما نشاء" يجب أن يكون ناقوس خطر لجميع السوريين، وليس مدعاة للفخر.
فإذا كانت المرحلة القادمة ستُبنى على منطق الغلبة والاستقواء، فإن مستقبل سوريا سيظل محفوفاً بالمخاطر، وسيُنتج جولات جديدة من العنف والصراع.
أما إذا أُديرت المرحلة بروح وطنية عالية، قائمة على الحوار والتفاهم، فستكون بداية حقيقية لبناء سوريا الجديدة: دولة مدنية، ديمقراطية، عادلة، تضم الجميع وتحترم الجميع.
سوريا لا تحتاج أغلبية تُملي إرادتها، بل تحتاج توافقاً يحمي الجميع.