الوقت- منذ اندلاع الحرب الوحشية على قطاع غزة في أكتوبر 2023، لم يعد النقاش حول طبيعة العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين مقتصرًا على خصوم الاحتلال أو الناشطين الحقوقيين المناصرين لفلسطين فحسب، بل امتد ليصل إلى داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، حيث بدأ بعض المحامين والنشطاء والأكاديميين الصهاينة في الإقرار - ولو جزئيًا - بفظائع تقترفها "دولتهم" في غزة، تصل إلى حد الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. هذه الاعترافات لا تأتي من باب التعاطف الإنساني فحسب، بل تعكس أيضًا إدراكًا متزايدًا بأن "إسرائيل"، بسياساتها العدوانية، تخسر مكانتها العالمية وتنحدر أخلاقيًا وقانونيًا إلى مستوى أنظمة الفصل العنصري والتطهير العرقي في التاريخ.
أوريئيل لين: محامٍ صهيوني يواجه الحقيقة المرّة
من أبرز الأصوات الإسرائيلية التي تصدّت لتوصيف ما يجري في غزة من منظور قانوني وأخلاقي هو المحامي والخبير القانوني الصهيوني "أوريئيل لين"، في مقال له أثار جدلاً واسعًا، أقر لين بشكل صريح بأن الجيش الإسرائيلي يقتل الأطفال في غزة، وطرح سؤالًا أخلاقيًا مفصليًا:
"هل حياة الطفل الفلسطيني أقل قيمة من حياة الطفل اليهودي في إسرائيل؟"
لين لم يكتفِ بهذا التساؤل، بل وضع إصبعه على الجرح الغائر، حين قال إن "غير المدنيين والأطفال يُقتلون كل يوم نتيجة القصف الإسرائيلي، ونحن نحاول تجاهل ذلك والمضي قدمًا، ولكن العالم لا ينسى"، وفي مقارنة تُظهر حجم الفجوة الأخلاقية، تساءل:
"ما ذنب أولئك الأطفال؟ ذنبهم الوحيد أنهم وُلدوا في غزة."
ما أشار إليه لين في اعترافه ليس أمرًا طارئًا، بل هو وصف دقيق لسياسة ممنهجة: حرب شاملة ضد المدنيين، حيث تتحول غزة إلى حقل تجارب للقنابل الذكية والغبية، دون أدنى اعتبار للقانون الدولي أو القيم الإنسانية.
حين تنتفض العدالة: العالم يشهد... حتى الإسرائيليون أنفسهم
تشير كلمات أوريئيل لين إلى وعي متأخر ولكنه مهم، فحتى من داخل المجتمع الصهيوني، لم يعد من الممكن إنكار أن ما يجري في غزة يتجاوز توصيف "العمليات العسكرية" أو "الرد على حماس"، بل هو جريمة ضد الإنسانية، تُرتكب بشكل منهجي ومدروس.
وقد حذر لين من نتائج هذا المسار الكارثي، قائلاً إن استمرار قتل المدنيين سيدفع العالم إلى مزيد من العزلة لإسرائيل، كما حصل مع نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.
وأضاف " :اليوم، يُنظر إلينا في العالم كمجرمي حرب ومرتكبي إبادة جماعية... حتى مناصرو إسرائيل أصيبوا بالذهول عند رؤية ما يحدث في غزة."
الناشطون اليهود المعارضون: أصوات من الضمير الإنساني
في خضم العدوان الإسرائيلي، ظهرت موجة من الاحتجاجات داخل المجتمع اليهودي في الشتات أيضًا، وخصوصًا في الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، فمجموعات مثل "يهود من أجل السلام" (Jewish Voice for Peace) نظمت مظاهرات في نيويورك وواشنطن ضد دعم بلادهم غير المشروط لـ"إسرائيل"، ورفعت شعار "ليس باسمي".
وفي جامعة كولومبيا الأمريكية، قادت طالبة يهودية تُدعى تالي، حملة تضامن مع فلسطين وكتبت على صفحتها:
"تعلّمت من تراثي أن نقول الحقيقة عندما يكون الظلم قائمًا، وما يحدث في غزة ليس دفاعًا عن النفس، بل إبادة جماعية."
أما في بريطانيا، فقد أصدر الحاخام اليهودي البريطاني "جوناثان رومين" بيانًا غير مسبوق دعا فيه حكومة بلاده إلى وقف بيع السلاح لإسرائيل، واصفًا ما يحدث في غزة بأنه "نكبة جديدة".
شهادات أوروبية: منظمات حقوقية ومفكرون يفضحون الجريمة
لم تكن الاعترافات مقتصرة على الإسرائيليين فحسب، بل إن عشرات المنظمات الأوروبية أصدرت بيانات تصف الحرب بأنها إبادة جماعية، فقد أعلنت منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن "إسرائيل" ترتكب "جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك الفصل العنصري والاضطهاد" في الأراضي الفلسطينية.
كما نشرت الصحيفة الفرنسية لوموند ديبلوماتيك تقريرًا موسعًا عن "جرائم القتل المنهجي للأطفال والنساء في غزة"، وفي ألمانيا، تحدى المفكر اليهودي الألماني "موشيه زوكيرمان" الموقف الرسمي، وقال:
"إن ما يجري في غزة لا يمكن تبريره أبدًا، لا دينيًا ولا سياسياً، إنه مجزرة بطيئة بحق شعب محاصر."
النتائج الكارثية: عزلة دولية وتراجع في دعم "إسرائيل"
الاعترافات الإسرائيلية الداخلية والضغط الأوروبي والعالمي أدت إلى تغير ملموس في مواقف العديد من الدول، فقد بدأت دول مثل إسبانيا وإيرلندا والنرويج والسلوفينيا بالاعتراف بالدولة الفلسطينية رسميًا، وظهرت مبادرات فرنسية وسعودية في الأمم المتحدة لفرض حلول عادلة، كما تم وقف شحنات أسلحة إلى "إسرائيل" من دول أوروبية عدة.
يشير أوريئيل لين إلى هذه النتائج، قائلًا إن إسرائيل "تسير في طريق يشبه ما حدث مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا"، حيث بدأ العالم في مقاطعة الجامعات الإسرائيلية ورفض التعاون العلمي والبحثي، وأخذت صناعة التكنولوجيا الإسرائيلية تتأثر بشكل مباشر نتيجة العزلة الأخلاقية.
الإجرام الصهيوني لم يعد سرًا – والاعتراف أولى خطوات المحاسبة
في الماضي، كان الحديث عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين يُقابل بالتشكيك أو يُسكت بتهمة معاداة السامية، لكن اليوم، من داخل "إسرائيل" ذاتها، ومن داخل مؤسساتها الأكاديمية والقانونية، تخرج أصوات تعترف بأن ما يجري في غزة هو تطهير عرقي منظم، وأن الأطفال يُقتلون عمدًا، وأن السياسات القائمة على القتل الجماعي لن تجلب الأمن بل الدمار الأخلاقي والسياسي.
هذه الاعترافات ليست كافية، لكنها تشكّل خطوة مهمة في فضح نظام لم يعد يستطيع الاختباء وراء شعارات "الأمن" أو "مكافحة الإرهاب"، وما دام هناك من يجرؤ من الداخل على الحديث، فإن الرواية الفلسطينية لم تعد محصورة بين الضحايا، بل تجد اليوم صدى حتى داخل أسوار الجلاد.
لقد بدأ جدار الصمت يتشقق، وصرخة الضمير تتعالى. وإن كانت غزة تدفع الثمن من دم أطفالها، فإن العالم بات مدعوًا لتحمل مسؤوليته التاريخية، ليس فقط في الإدانة، بل في اتخاذ إجراءات عملية لمحاسبة "إسرائيل" على جرائمها، ومنع استمرار الإبادة الجماعية بحق شعب أعزل.