الوقت - أثارت الأنباء التي أماطت عنها وزارة الاستخبارات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية اللثام بشأن توجيه “ضربة عميقة وهائلة” استخباراتية للكيان الصهيوني، زوبعةً من التكهنات والتحليلات المتباينة في شتى المنابر الإعلامية العالمية.
وفي هذا المضمار، تصدى موقع وكالة “سبيشال يوراسيا” الإعلامية والاستشارية، المتخصصة في سبر أغوار المعلومات الجيوسياسية وتقدير المخاطر في ميدان القضايا الدولية، بمقال بقلم سيلفيا بولتوك، الرئيسة التنفيذية والمؤسسة المشاركة للوكالة، يستجلي مختلف زوايا هذا الحدث الجلل.
يفكك هذا التقرير بمشرط التحليل الدقيق التداعيات الاستراتيجية لخرقٍ استخباراتي محتمل بالغ الجسامة في المنظومة الأمنية الإسرائيلية، خرق يستند إلى إعلان إيران استحصالها على وثائق عسكرية ونووية فائقة الحساسية من داخل أروقة الكيان المحتل.
ويغوص التقرير في أعماق الاستراتيجية الاستخباراتية الإيرانية المتطورة والمتنامية في خضم المشهد الجيوسياسي المتقلب للشرق الأوسط، كاشفاً في الوقت عينه النقاب عن مواطن الوهن الأمنية في جسد الکيان الصهيوني، وفي حال تأكيد صحة ادعاء طهران بالوصول إلى هذه الوثائق، فإن هذا الحدث قد يسجل في سجلات التاريخ بوصفه أحد أفدح الإخفاقات في مكافحة التجسس الإسرائيلي على مرّ العقود.
ويختتم التقرير بتقييم شامل للمخاطر، راسماً بريشة خبير التبعات الأمنية والدبلوماسية والعملياتية لهذا الاختراق الجسيم.
الخلفية التاريخية
أعلن إسماعيل خطيب، وزير الاستخبارات الإيراني، أن طهران استحصلت على معلومات “استراتيجية وحساسة” إسرائيلية، تشمل آلاف الصفحات من الوثائق المتعلقة بالمنشآت النووية والبرامج الدفاعية لـ"إسرائيل"، وأفادت إيران بأن هذه المواد ستكشف للعيان في المستقبل القريب.
وأضاف خطيب إن من بين الوثائق المستحصلة، ثمة وثائق تتصل بالولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى، وقد تعزز الاعتقالات الأخيرة لإسرائيليين يُزعم أنهم يتجسسون لمصلحة طهران، الادعاء بأن هذه الملفات تم الحصول عليها عبر “الاختراق” و"الوصول إلى المصادر".
وفي الواقع، أفاد التلفزيون الإيراني الرسمي بأن عملاء الاستخبارات جمعوا هذه المعلومات خلال عملية سرية استثنائية، تضمنت كماً هائلاً من الوثائق والصور ومقاطع الفيديو.
وفي أكتوبر 2024، ألقت "إسرائيل" القبض على سبعة مواطنين إسرائيليين بتهمة تنفيذ نحو 600 مهمة تجسس على مدى عامين.
وأفادت التقارير بأن هذه العمليات شملت استقاء معلومات من مواقع عسكرية بالغة الحساسية، بما في ذلك منشآت سلاح الجو والبحرية، والموانئ، ومواقع منظومة القبة الحديدية، والبنى التحتية للطاقة مثل محطة هادرا.
واتهمت السلطات الإسرائيلية المشتبه بهم، وهم يهود مهاجرون من أذربيجان يقيمون في منطقة حيفا، بتلقي مئات الآلاف من الدولارات، غالباً عبر العملات المشفرة، من عملاء إيرانيين يُعرفون باسم “إلخان” و"أورخان"، ووصفت السلطات الإسرائيلية هذه القضية بأنها من أخطر الاختراقات الأمنية في السنوات الأخيرة.
علاوةً على ذلك، في يناير 2025، تم اعتقال جنديين إسرائيليين من قوات الاحتياط، يوري إلياسفوف وجورج أندريف، بتهمة التجسس لمصلحة إيران، ويُزعم أن إلياسفوف، الذي كان يخدم في وحدة للقبة الحديدية، شارك معلومات سرية حول نظام الدفاع الجوي مع مستخدم إيراني.
وتشير التقارير إلى أن المديرين الإيرانيين قاموا بتجنيد كلا الشخصين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ودفعوا لهما بواسطة العملات المشفرة، وأعلنت الشبكة الحكومية التي تغطي هذه القضية أن هذه العملية وقعت مؤخراً، ومع ذلك، تأخرت التغطية الإعلامية لتيسير النقل الآمن للمعلومات بالغة الحساسية.
وأفاد موقع إخباري إسرائيلي بأن هذه المعلومات تم جمعها ونقلها بواسطة روي ميزراحي وألماغ أتياس، وهما إسرائيليان اعتقلتهما الشرطة الإسرائيلية في مايو بتهمة جمع معلومات لمصلحة إيران في كفار أحيم، حيث يقيم “كاتس” وزير الدفاع الإسرائيلي.
المشهد الجيوسياسي
في السنوات الأخيرة، كثّف عملاء الاستخبارات الإيرانية مساعيهم الحثيثة لتجنيد مواطنين إسرائيليين كجواسيس مقابل المال، وفي ديسمبر 2024، ألقت الشرطة القبض على نحو 30 إسرائيلياً، معظمهم من المواطنين اليهود، بسبب أنشطة تجسس لمصلحة إيران.
إن ادعاء طهران بامتلاك معلومات دقيقة حول المواقع النووية والبنى التحتية العسكرية الإسرائيلية، يهدّد بشكل مباشر أمن هذا الکيان وقدرته الردعية الأساسية، وفي حال التأكد من صحة هذه المعلومات ونشرها، يمكن أن تستغلها إيران وأذرعها للتخطيط لعمليات تخريب أو هجمات سيبرانية، أو ضربات موجهة بدقة متناهية.
وفي حال تأكيد وجود مثل هذه الوثائق، يمكن للجمهورية الإسلامية استثمار هذه المعلومات كرافعة دبلوماسية أو أداة فاعلة في الحرب غير المتماثلة ضد "إسرائيل" وحلفائها، يأتي ذلك في وقتٍ تتسع فيه يوماً إثر يوم موجة الاحتجاجات الشعبية في أوروبا وأمريكا والشرق الأوسط ضد الأزمة الإنسانية المتفاقمة في غزة، ما يولّد ضغوطاً متصاعدةً لتغيير سياسات الدول تجاه الکيان الصهيوني، وعلى الرغم من استمرار الدعم العسكري لـ "إسرائيل"، إلا أن الدعم الدبلوماسي الدولي لهذا الکيان يتضاءل بوتيرة متسارعة.
وفي حال وجود وثائق تكشف النقاب عن الدعم الغربي غير المشروط للعمليات العسكرية وانتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية في غزة، يمكن لطهران توظيف هذه الأدلة لتقويض مكانة القادة الغربيين، وخاصةً في ظل تصاعد الإدانات الدولية لهذه الأعمال، ويمكن أن تتحول مثل هذه الوثائق إلى أداة فاعلة للكشف عن الدول المعارضة، أو للتأثير في مسارات الدبلوماسية الدولية.
إن إلقاء القبض على مواطنين إسرائيليين، وخاصةً المهاجرين اليهود من جمهورية أذربيجان وجنود الاحتياط الذين تمت استمالتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يكشف النقاب عن استراتيجيات التجسس الإيرانية المتكيفة، کما أن استغلال مجتمعات الشتات والإفادة من منصات التواصل الاجتماعي للتجنيد، يشير إلى تحول جذري في الاستراتيجية من التجسس التقليدي إلى مناهج هجينة تمزج بين الاستخبارات البشرية (HUMINT) والاستغلال السيبراني بمهارة فائقة، کذلك، يعكس استخدام المدفوعات المشفرة تعقيداً عملياتياً، يرمي إلى التملص من تتبع الآثار المالية.
يسلط هذا الاختراق الاستخباراتي الضوء الكاشف على مواطن الضعف في الجهاز الأمني الإسرائيلي، وخاصةً في ميدان مراقبة وضبط مجتمعات المهاجرين، إن سياسة تل أبيب السكانية التي تركز على استقطاب المهاجرين اليهود من شتى أصقاع العالم - في مواجهة تصاعد معدل المواليد في المجتمع الفلسطيني - جعلت النظام الأمني الإسرائيلي، رغم فرضه رقابةً صارمةً على الفلسطينيين، يواجه تحديات جسيمة في مراقبة تحركات المهاجرين اليهود الوافدين حديثاً.
من المرجح أن تشهد "إسرائيل" تحولات جوهرية في بنيتها المضادة للتجسس، تتمحور حول ثلاثة أركان رئيسية: تشديد الرقابة على شبكات التواصل الاجتماعي، وتكثيف عملية تمحيص المهاجرين، وفرض قيود أكثر صرامةً على وصول قوات الاحتياط إلى الوثائق السرية، وعلى الرغم من أن هذه التحولات قد تشمل تعزيز آليات الرقابة وتغليظ عقوبات التجسس، إلا أنها ستكون حتماً على حساب تقييد الحريات المدنية للمواطنين.
وبينما اعتاد المجتمع الدولي على هجمات "إسرائيل" ضد أهداف إيرانية (بما في ذلك اغتيال العلماء النوويين وكشف النقاب عن نقاط الضعف الأمنية الإيرانية)، فإن نطاق واستمرارية عمليات التجسس المبلغ عنها على الأراضي الإسرائيلية - مع مئات المهام على مدى عامين - يكشف عن خللٍ هيكلي ونقاط عمياء أمنية في رصد التهديدات الداخلية، وفي حال صحة ادعاء إيران بالوصول إلى هذه الوثائق (التي لا تزال الأدلة القاطعة على تأكيدها أو نفيها غير متوافرة)، فإن التأخير المحسوب في النشر الإعلامي، يشي بتبني طهران استراتيجية الإفراج التدريجي المتناغمة مع أهداف الحرب النفسية والمعلوماتية، والتي تسعى، مع الحفاظ على سرية العمليات، إلى تعظيم التأثير العملياتي والنفسي.
ومع تقويض الممر السوري وتضاؤل قدرة محور المقاومة، من المرجح أن تنحو إيران منحى تكثيف العمليات السيبرانية والإجراءات البشرية (HUMINT) ضد البنى التحتية الحيوية الإسرائيلية، لن يدفع هذا التحول في الاستراتيجية "إسرائيل" نحو تعزيز حصونها السيبرانية ومراقبتها الاستخباراتية فحسب، بل قد يفاقم أيضاً خطر شنّ هذا الکيان هجوماً استباقياً على المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية.
تبتغي طهران، من خلال وعدها بنشر الوثائق، تحقيق ثلاثة مقاصد رئيسية: زعزعة الثقة العامة في "إسرائيل"، وتعزيز تيارات المعارضة الداخلية، وإبراز صمود إيران في مواجهة الضغوط الدولية، وفي حال تجسد هذا السيناريو، سيترتب على ذلك تداعيات سياسية بالغة الخطورة لـ "إسرائيل" قد تطال استقرار الحكومة وثقة المواطنين في المؤسسات الأمنية.
قد تسعى إيران أيضاً إلى استثمار هذا الكنز المعلوماتي في المفاوضات الدبلوماسية الإقليمية، ويمكن توظيف القضايا المتعلقة بالغرب كورقة تفاوضية، أو لتعزيز سردية اللاعبين غير المنحازين بشأن المعايير المزدوجة للغرب ونهجه الاستعماري الجديد.
من المرجح أن يستهدف نشر هذه الوثائق جمهوراً أوسع من الجمهور الإسرائيلي، ففي الساحة الداخلية الإيرانية، يمكن أن تعمل هذه الكشوفات كأداة لترسيخ صورة قوة وانتصار الجمهورية الإسلامية والحرس الثوري الإيراني (IRGC).
قد يرتبط توقيت الكشف عن هذه الوثائق، بفضيحة التجسس الإسرائيلية الأخيرة ضد كبار المسؤولين الأوروبيين، وإذا كانت "إسرائيل" تمتلك بالفعل معلومات حساسة عن هذه الشخصيات، فمن المحتمل أن تكون إيران قد وصلت أيضاً إلى مثل هذا المحتوى، أو على الأقل ادعت ذلك، يمكن أن تُستثمر هذه الرافعة المعلوماتية كأداة تكتيكية في يد طهران في إطار حرب إعلامية أوسع نطاقاً - منافسة عتيقة لا تزال مستعرةً في الساحة الإعلامية بين إيران وأوروبا.
خاتمة القول
يمكن تمحيص هذه العملية الاستخباراتية الإيرانية بجلاء في إطار حرب الظل المستعرة منذ أمد بعيد بين البلدين - صراع شديد التعقيد يتّسم بعناصر متنوعة تشمل الهجمات السيبرانية، والحرب النفسية، والعمليات الاستخباراتية، واستخدام المجموعات الوكيلة، وتوظيف الطائرات المسيرة، وتنفيذ مهام سرية تشمل الاغتيالات المستهدفة وأعمال التخريب.
على وجه التحديد، يتزامن توقيت هذا الحدث بشكلٍ ذي مغزى عميق مع مساعي الدول الغربية لتمرير قرار ضد إيران في الوكالة الدولية للطاقة الذرية - قرار يتهم إيران بالتنصل من التزاماتها النووية، ويفسر هذا التزامن تحرك إيران كرد فعل محسوب بدقة واستعراض للقوة والنفوذ.
بالنسبة لـ "إسرائيل"، يكشف هذا الإفصاح مرةً أخرى النقاب عن المخاوف المتجذرة بشأن المساعي الإيرانية المتواصلة لتجنيد جواسيس من بين المواطنين الإسرائيليين، أما إيران، فقد أظهرت مرونةً لافتةً وقدرةً على التكيف السريع مع المتغيرات الجيوسياسية، ولا تزال استراتيجية طهران تتمحور حول أساليب الحرب غير المتماثلة بدلاً من المواجهة العسكرية المباشرة - نهج يتناقض بشكل صارخ مع موقف بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء "إسرائيل"، الهجومي بشأن توجيه ضربة استباقية للمنشآت النووية الإيرانية.
إن احتمال نشوب مواجهة مباشرة يثير في النفس قلقاً عميق الغور، ففي حين أن إيران لا تزال في مرحلة تخصيب اليورانيوم، فإن "إسرائيل"، رغم سياستها في خلق غموضٍ متعمد في هذا المضمار، هي الکیان الوحيد في الشرق الأوسط المعروف بامتلاكه ترسانةً نوويةً، ما يضيف مستوی خطيراً من احتمالية التصعيد.