الوقت- في سابقة لم تحدث منذ عقود في الساحة السياسية الإسرائيلية، خرج إيهود أولمرت، رئيس وزراء "إسرائيل" الأسبق، بتصريحات صادمة اتهم فيها حكومة بنيامين نتنياهو بارتكاب "جرائم حرب" في قطاع غزة، واصفاً إياها بـ "عصابة مجرمين" تمارس حرب تدمير شاملة ضد المدنيين الفلسطينيين.
جاءت هذه التصريحات خلال مقابلة نشرتها مجلة The New Yorker وصحيفة هآرتس العبرية، حيث حمّل أولمرت الحكومة الإسرائيلية مسؤولية مباشرة عن الدمار الهائل في غزة، والقتل العشوائي، والتجويع المتعمّد، ومنع دخول المساعدات الإنسانية.
اعتراف من داخل الكيان: متى يُحتج به؟
يكتسب هذا التصريح أهميته ليس فقط بسبب فظاعة الجرائم التي يشير إليها، بل لأنه صادر عن أحد رموز النظام الإسرائيلي نفسه، وهو الذي ترأس حكومة تل أبيب بين عامي 2006 و2009، وخاض خلال تلك الفترة حرباً شعواء ضد قطاع غزة في شتاء 2008/2009، هذا يجعل من تصريحاته شهادة من داخل البيت الصهيوني، وليست صادرة عن خصم خارجي أو طرف محايد.
حين يعترف قادة العدو بما ترتكبه حكومتهم من جرائم، فإن هذا لا يعد فقط مادة تحليلية وإعلامية، بل وثيقة إدانة قانونية يجب أن تُرفع في المحافل الدولية، وتُترجم إلى تحرّك سياسي وقانوني وميداني من جانب حركات المقاومة الفلسطينية والداعمين للقضية حول العالم.
سياسة الأرض المحروقة: مجازر بلا سقف
أشار أولمرت إلى أن ما تفعله حكومة نتنياهو هو تنفيذ لـ "سياسة التدمير الشامل"، حيث القتل لا يميز بين طفل وامرأة ومقاتل، والحصار يتحول إلى خنق كامل للحياة.
وهو بذلك يؤكد ما تردده تقارير المنظمات الحقوقية الدولية مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية والأمم المتحدة، التي تحدثت عن "احتمال وجود نية للإبادة" في غزة بعد تدمير أكثر من 70% من منازلها وبناها التحتية، واستشهاد ما يزيد على 38 ألف فلسطيني خلال الحرب المستمرة منذ أكتوبر 2023، لكن الفرق هنا أن الحديث هذه المرة ليس من خارج المشهد، بل من قلبه، ومن فم أحد بناة المشروع الصهيوني، الذي يعرف أسرار صناعة القرار وخفايا العمليات العسكرية.
المقاومة تقرأ الحدث بدقة: العدو ينهار من الداخل
من زاوية فلسطينية، لا يجب التعامل مع هذه التصريحات فقط كمادة إعلامية تُستهلك لحظياً، بل كمؤشر على الاهتراء البنيوي في المؤسسة الإسرائيلية، وتزايد الخلافات داخل نخبها السياسية والعسكرية والأمنية.
حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، التي يسيطر عليها وزراء من أمثال بن غفير وسموتريتش، تواجه اليوم تمرداً سياسياً وأخلاقياً حتى من داخل أروقة الدولة العميقة، ولعل قول أولمرت إن الحكومة "تفعل ذلك عن عمد" وإن "القتل العشوائي مقصود ومخطط" يشير إلى أن العدو لم يعد يملك غطاءً أخلاقياً أو سياسياً حتى داخل بيته.
هنا، يظهر دور المقاومة الفلسطينية باعتبارها الطرف الذي كشف زيف هذه الدولة، وأسقط أقنعتها أمام العالم، وأجبر قادتها على فضح أنفسهم بأنفسهم.
المقاومة الفلسطينية: شرعية تتعاظم وصمود يُربك الحسابات
بينما يسعى الاحتلال إلى فرض واقع الاستسلام بالقوة الغاشمة، تبرز المقاومة الفلسطينية كحالة متجددة من الصمود والشرعية، فهي ليست مجرد رد فعل على عدوان، بل مشروع تحرّر وطني متكامل، يمتد من خنادق غزة إلى أزقة جنين والقدس وساحات المواجهة في الشتات.
لقد أثبتت فصائل المقاومة، وفي مقدمتها كتائب القسام وسرايا القدس، أنها قادرة على الصمود والتكتيك والمناورة، بل على نقل المعركة إلى عمق الوعي الإسرائيلي، فاليوم، يعيش المستوطنون حالة خوف دائم، ويعاني الجيش من الاستنزاف المعنوي، بينما ترتفع شعبية المقاومة في الداخل الفلسطيني وتتعاظم عالمياً.
هذا الصمود هو الذي دفع أولمرت وغيره إلى دق ناقوس الخطر، لأنه بات واضحاً أن المقاومة لم تُهزم، بل ازدادت رسوخاً، وكسرت صورة "الجيش الذي لا يُقهر"، هي اليوم حالة وطنية شاملة، تنبض من تحت الأنقاض، وتحمل شعلة القضية رغم كل الدمار والخذلان الدولي.
من الميدان إلى الإعلام: انتصار الرواية الفلسطينية
لعقود طويلة، سيطرت الرواية الإسرائيلية على الإعلام العالمي، وجرى تصوير العدوان على أنه دفاع عن النفس، والمقاومة على أنها إرهاب لكن منذ بدء العدوان الأخير على غزة، ومع ازدياد وحشية الاحتلال، بدأ العالم يشهد تغيراً دراماتيكياً في المزاج الدولي، حيث خرجت ملايين الأصوات في الشوارع، وانتفض طلبة الجامعات في أمريكا وأوروبا، وطالب كثيرون بوقف الدعم العسكري لإسرائيل.
وجاء تصريح أولمرت في هذا السياق، كتعزيز للرواية الفلسطينية، ونسف لما تبقى من ذرائع إسرائيلية في تبرير جرائمها.
رسائل موجهة إلى المجتمع الدولي
في تصريحاته، بدا أولمرت وكأنه يوجّه تحذيراً للمجتمع الدولي أكثر من كونه ينتقد الداخل الإسرائيلي.
قال بوضوح إن ما يحدث "يجب أن يُحقق فيه كمجموعة جرائم حرب"، وهو بذلك يعترف بوجود عناصر قانونية كافية لملاحقة حكومة نتنياهو أمام محكمة الجنايات الدولية.
على الدول الداعمة لـ"إسرائيل" – وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا – أن تُدرك أن الاستمرار في دعم هذه الحكومة يجعلها شريكة في جرائم الإبادة، لا مجرد داعم سياسي أو عسكري.
المقاومة مستمرة: هذا ما أرعب أولمرت
رغم كل محاولات التدمير والقتل، لا تزال المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة تنبض بالحياة، وأكثر ما يرعب قادة الاحتلال السابقين والحاليين هو أن المقاومة لم تنكسر رغم حجم القصف، بل طورت من أدواتها، ونقلت المعركة إلى عمق الوعي الصهيوني نفسه، حيث تفقد القيادة الإسرائيلية سيطرتها على مجتمعها.
تصريحات أولمرت ليست صرخة ضمير بقدر ما هي اعتراف بالفشل، وخوف من مستقبل باتت فيه إسرائيل محاصرة سياسياً وأخلاقياً وعسكرياً.
في النهاية إن تصريحات أولمرت تمثل لحظة سياسية ثمينة يجب البناء عليها فلسطينياً وعربياً ودولياً.
ينبغي:
- استثمار هذا الاعتراف لتوسيع ملفات الجرائم ضد الإنسانية في المحاكم الدولية.
- ترجمة تصريحاته إلى لغات متعددة وتوزيعها ضمن حملات إعلامية.
- إدراجها ضمن المرافعات السياسية والدبلوماسية.
- اعتبارها وثيقة إدانة من الداخل، يمكن البناء عليها في كل المحافل.
فحين يعترف العدو بجرائمه، تصبح المعركة أكثر وضوحاً، وتُصبح المقاومة ليست فقط واجباً وطنياً، بل أيضاً خياراً أخلاقياً وإنسانياً.