الوقت- في تطور لافت لمسار التفاوض المتعثر حول وقف إطلاق النار في قطاع غزة، أعلنت حكومة الاحتلال الإسرائيلي رفضها إرسال وفد رسمي إلى مفاوضات الدوحة، متذرعة بتباين كبير بين مطالب حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وبين المقترحات التي طرحها المبعوث الأمريكي، هذا الموقف الإسرائيلي يعكس توجهًا نحو التصعيد العسكري الميداني، في محاولة واضحة لفرض الشروط الإسرائيلية على الطاولة التفاوضية بقوة السلاح.
ويرى مراقبون أن هذا الرفض يأتي في إطار تنسيق سياسي وأمني وثيق مع واشنطن، ما يعكس سياسة مزدوجة تمزج بين الضغوط العسكرية والتحرك الدبلوماسي المنضبط، في ظل تدهور متسارع للوضع الإنساني في غزة وانسداد الأفق السياسي.
موقفان متباينان في الدوحة
أفادت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية (2 يونيو 2025) بأن الوفد الإسرائيلي قرر عدم السفر إلى الدوحة، معتبرًا أن مطالب حماس "تتناقض جذريًا مع الطرح الأمريكي"، وخاصة في ما يتعلق بوقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب شامل للقوات الإسرائيلية من غزة، وعودة النازحين.
من جهتها، أكدت حماس تمسكها بالمبادرة الدولية المستندة إلى إعلان الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن في مايو 2024، والتي أصبحت لاحقًا أساسًا لقرار مجلس الأمن رقم 2735، وتنص المبادرة على وقف إطلاق نار مرحلي، يشمل تبادل الأسرى، وتسهيل المساعدات الإنسانية، ثم الدخول في مفاوضات حول مستقبل القطاع.
ونقلت قناة الجزيرة عن مصدر في المقاومة قوله: "الاحتلال يراهن على عامل الوقت لفرض وقائع بالقوة، وهذا أمر مرفوض"، مؤكدًا أن "أي مبادرة لا تنطلق من الورقة الأممية تمثل التفافًا على حقوق الشعب الفلسطيني".
تاريخ من المفاوضات المتعثرة
ليست هذه المرة الأولى التي تتعثر فيها المفاوضات بين الاحتلال الإسرائيلي وحماس، فمنذ نهاية حرب 2014، جرت العديد من الجولات التفاوضية غير المباشرة، بوساطة مصرية وقطرية، لكنها غالبًا ما كانت تنتهي بتهدئة هشة لا ترقى إلى اتفاق مستدام.
وكانت أبرز المحاولات في أعقاب "معركة سيف القدس" عام 2021، ثم الحرب على غزة عام 2022، إلا أن الفجوة بين مواقف الطرفين ظلت قائمة: فبينما تطالب حماس برفع شامل للحصار وإعادة الإعمار، تصر "إسرائيل" على ربط أي تسهيلات بشروط أمنية صارمة.
منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023، فُتحت أكثر من خمس جولات وساطة، دون تقدم حقيقي، نتيجة تمسك الاحتلال بمواصلة العمليات العسكرية حتى "تحقيق الأهداف الأمنية"، في حين تعتبر حماس ذلك غطاءً لاستمرار العدوان.
استراتيجية الضغط الميداني بدلًا من التفاوض
رفض حكومة الاحتلال الإسرائيلي المشاركة في مفاوضات الدوحة يعكس، في جوهره، استراتيجية مدروسة تهدف إلى كسب مزيد من الوقت لتحقيق مكاسب عسكرية على الأرض، وخاصة في رفح، التي تعتبرها آخر معاقل المقاومة.
ووفقًا لصحيفة هآرتس (1 يونيو 2025)، نقل مسؤول أمني أن "الجيش يحتاج مزيدًا من الوقت لتفكيك البنية العسكرية لحماس، ولا سيما في جنوب القطاع"، ما يشير إلى أن "اسرائيل" تفضل تحسين وضعها الميداني قبل الجلوس على الطاولة التفاوضية.
هذا الموقف يجد دعمًا ضمنيًا من الإدارة الأمريكية، التي، رغم دعمها الرسمي للمبادرة الأممية، لم تُصدر أي انتقاد علني للقرار الإسرائيلي، ما يعكس تواطؤًا سياسيًا غير معلن.
في هذا السياق، يُفهم الانسحاب من المفاوضات كتكتيك تفاوضي يهدف إلى الضغط على الوسطاء، وإيصال رسالة إلى حماس بأن الوقت لا يعمل لمصلحتها، وأن دولة الاحتلال الإسرائيلي قادرة على فرض الأمر الواقع بالقوة.
الأوضاع الإنسانية: غزة تدفع الثمن
في ظل التصعيد المستمر، يعيش قطاع غزة كارثة إنسانية حقيقية، فحسب تقرير مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية لشهر مايو 2025، تجاوز عدد النازحين 1.8 مليون شخص، فيما دُمرت آلاف الوحدات السكنية، وأصبحت معظم المستشفيات خارج الخدمة.
منظمة الصحة العالمية حذّرت بدورها من تفشي الأوبئة نتيجة اكتظاظ مراكز الإيواء، مشيرة إلى ارتفاع معدلات سوء التغذية، خاصة بين الأطفال، كما أن انقطاع الكهرباء ونقص المياه جعلا من الحياة اليومية تحديًا مستمرًا لسكان القطاع المحاصر.
ويرى مراقبون أن استمرار "إسرائيل" في تصعيدها العسكري دون التزام تفاوضي جاد يُعد تجاوزًا للقانون الدولي، ويزيد من تفاقم الوضع الإنساني، مع غياب أي أفق للحل القريب.
الوساطة الدولية في اختبار صعب
أعربت مصر، التي تقود الوساطة منذ بداية الحرب، عن قلقها البالغ من فشل جولة الدوحة، وأشارت مصادر دبلوماسية إلى أن القاهرة تدرس تجميد دورها مؤقتًا إذا لم تُظهر "إسرائيل" مرونة.
أما قطر، فأكدت مواصلة جهودها الدبلوماسية رغم التحديات، داعية جميع الأطراف للالتزام بمبادئ القرار الأممي، واعتباره أرضية صلبة لأي اتفاق مستقبلي.
دوليًا، دعت فرنسا وألمانيا والصين إلى استئناف المفاوضات فورًا، محذرين من خطر توسّع رقعة الصراع، فيما طالبت الأمم المتحدة بفتح تحقيق مستقل في الانتهاكات التي ارتُكبت خلال الحرب.
المأزق السياسي ومخاطر التصعيد
إن قرار "إسرائيل" بعدم المشاركة في مفاوضات الدوحة يمثل إشارة واضحة إلى تفضيلها للحسم العسكري على الحل السياسي، في مسار لا يؤدي إلا إلى المزيد من العنف والمعاناة الإنسانية.
لكن هذا الرهان على القوة محفوف بالمخاطر، ليس فقط من ناحية الكلفة البشرية، بل أيضًا على مستوى الأمن الإقليمي. فاستمرار الحرب في غزة قد يشعل جبهات أخرى في لبنان أو الضفة الغربية، ويُدخل المنطقة في دوامة صراع طويلة الأمد.
في المقابل، يُحسب لحماس تمسكها بالحلول المستندة إلى الشرعية الدولية، لكنها بحاجة إلى غطاء سياسي أكبر، وضغط دولي واضح على الاحتلال الإسرائيلي للعودة إلى طاولة المفاوضات دون شروط مجحفة.
الرهان على السلاح وحده لن يُنهي الصراع، بل يُكرّس دوامة من الدمار. وحده الحل السياسي الشامل، المستند إلى قرارات الأمم المتحدة، قادر على تحقيق السلام العادل والمستدام.