الوقت- منذ تصاعد التوترات في البحر الأحمر بفعل الهجمات البحرية التي يشنها أنصار الله ضد السفن المرتبطة بالكيان الإسرائيلي، دخلت "جبهة البحر" مرحلة جديدة من الضغط الاستراتيجي الذي امتد أثره المباشر ليصل إلى العمق الاقتصادي الإسرائيلي، وتحديدًا إلى ميناء "إيلات" الواقع في أقصى الجنوب على خليج العقبة.
في أحدث تقاريرها، كشفت صحيفة "غلوبس" العبرية المتخصصة بالشؤون الاقتصادية، أن ميناء إيلات يواجه خطر الإفلاس الكامل بعد أن سجل انخفاضًا مهولًا في دخله السنوي وصل إلى 80%، نتيجة الحصار البحري الفعّال الذي فرضته قوات أنصار الله في البحر الأحمر.
وحسب ما ورد، فإن الحكومة الإسرائيلية ستعقد يوم الأحد القادم اجتماعًا وزاريًا طارئًا لبحث خطة إنقاذ مالية عاجلة لهذا الميناء الحيوي.
ميناء إيلات: شريان استراتيجي في قلب العاصفة
يقع ميناء إيلات في أقصى جنوب الكيان الإسرائيلي، وهو منفذ استراتيجي وحيد لها على البحر الأحمر، لطالما استخدمته تل أبيب كبديل لموانئ البحر الأبيض المتوسط، وخاصة في الأزمات أو في العلاقات التجارية مع دول آسيا وشرق إفريقيا، كما أنه يعد بوابة مهمة لواردات السيارات، حيث يتم عبره تفريغ مئات آلاف السيارات القادمة من شرق آسيا كل عام.
في عام 2023، استقبل ميناء إيلات 134 سفينة، وشهد تفريغ أكثر من 150,000 سيارة داخله، وهو ما ساهم بتحقيق دخل بلغ أكثر من 212 مليون شيكل إسرائيلي، أما في عام 2024، وتحديدًا بعد إعلان أنصار الله عن استهداف السفن المرتبطة بالكيان الإسرائيلي، فقد انقلبت الصورة تمامًا.
وفقًا لتقرير "غلوبس"، لم يتم تفريغ أي سيارة واحدة في ميناء إيلات منذ بداية 2024، في سابقة خطيرة لم يشهدها الميناء منذ إنشائه، أما عدد السفن التي نجحت في الوصول إليه خلال نصف العام الأول فلم يتجاوز ست سفن فقط، أي ما يعادل 4.5% فقط من متوسط حركة السفن السنوية المعتادة.
أزمة مالية خانقة: من فائض الإيرادات إلى حافة الإفلاس
تُظهر البيانات أن دخل الميناء في عام 2024 انخفض بشكل كارثي إلى نحو 42 مليون شيكل فقط، مقارنة بـ212 مليونًا في العام السابق، وهو ما يعني تراجعًا بنسبة 80.2%، هذه الفجوة الضخمة في الدخل، ترافقها التزامات مالية كبيرة على الميناء، أبرزها ديون تأجيرية متراكمة بقيمة 3 ملايين شيكل لم يتم سدادها منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر 2023.
لذلك، قدمت وزارة المالية الإسرائيلية مقترحًا إلى الحكومة يقضي بتخصيص 15 مليون شيكل كمساعدات طارئة لدعم الميناء ومنع إفلاسه، ضمن خطة مؤقتة لتسديد الديون التشغيلية، ويُتوقع أن يُعرض هذا المقترح على الحكومة للمصادقة عليه في جلسة مجلس الوزراء القادمة.
البحر الأحمر: من ممر تجاري إلى ساحة مواجهة استراتيجية
منذ أكتوبر 2023، أعلن أنصار الله تضامنهم مع الشعب الفلسطيني، وخاصة في ظل العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة، وذلك عبر استهداف السفن التجارية التي تتعامل مع الكيان الإسرائيلي أو تابعة له، وخصوصًا في البحر الأحمر وباب المندب، ونتيجة لذلك، أُجبرت عشرات شركات الشحن العالمية على تغيير مساراتها والابتعاد عن هذا الممر البحري الحيوي.
وتشير التقديرات إلى أن أكثر من 50% من الشحنات المتجهة للكيان الإسرائيلي عبر البحر الأحمر تم تحويل مسارها نحو طريق رأس الرجاء الصالح، ما زاد من وقت الشحن وتكاليف النقل بشكل كبير، ونتيجة لذلك، تضررت موانئ الكيان الجنوبية بشكل خاص، وفي مقدمتها إيلات، التي تعتمد على خطوط الملاحة عبر البحر الأحمر.
الرد الإسرائيلي.. محدودية الخيارات وعمق الأزمة
رغم مشاركة البحرية الأمريكية والبريطانية في عمليات "حماية السفن" عبر عملية "الحارس البحري" (Prosperity Guardian)، إلا أن هذه التدخلات لم تكن كافية لضمان وصول السفن إلى الموانئ الإسرائيلية بأمان، كثير من الشركات الكبرى مثل "ميرسك" و"هاباغ لويد" أعلنت رسميًا تعليق عملياتها تجاه إيلات، ما تسبب بعزلة اقتصادية شبه كاملة لهذا الميناء.
هذا الانقطاع التجاري له تداعيات بعيدة المدى، إذ أن ميناء إيلات يوظف مئات العمال بشكل مباشر، وآلاف آخرين بشكل غير مباشر من خلال شركات النقل والتخزين والخدمات اللوجستية. وفي حال استمر الانهيار، فإن الميناء سيكون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما خصخصته في ظروف صعبة للغاية، أو إغلاقه نهائيًا مع ما يترتب على ذلك من خسائر اقتصادية فادحة.
أرقام إضافية حول الأثر المالي
خسائر النقل: تشير تقارير اقتصادية إلى أن كل يوم تتأخر فيه السفن التجارية المتجهة إلى الكيان الإسرائيلي عبر طريق رأس الرجاء الصالح يكلّف شركات الاستيراد الإسرائيلية ما بين 20-50 ألف دولار يوميًا لكل سفينة، نتيجة زيادة تكلفة الوقود والتأمين.
قطاع السيارات: الكيان الإسرائيلي يستورد حوالي 300 ألف سيارة سنويًا، نصفها تقريبًا كان يتم تفريغه عبر إيلات. تعطّل هذا الخط التجاري أدى إلى نقص كبير في السيارات الجديدة في الأسواق الإسرائيلية وارتفاع أسعارها بنسبة تراوحت بين 15-25%، حسب ما أفادت به صحيفة "كالكاليست".
قطاع السياحة البحرية: إيلات كانت تستقبل عددًا من السفن السياحية سنويًا. ومع استمرار التهديدات في البحر الأحمر، توقفت هذه الرحلات تمامًا، ما ألحق ضررًا بقطاع الضيافة والفنادق.
التحول الاستراتيجي في أدوات الحرب
يُعتبر ما يفعله أنصار الله نموذجًا جديدًا من الحروب الهجينة، حيث لا حاجة لجيش بري واسع أو قصف مباشر للمنشآت، بل يمكن من خلال استهداف الملاحة أن يتم شل قطاعات اقتصادية بأكملها. إن استهداف الممرات البحرية، لا سيما تلك التي يعتمد عليها الكيان الإسرائيلي بشكل كبير، هو جزء من استراتيجية "استنزاف طويل الأمد" يبدو أنها تحقق نتائجها الفعلية.
وحسب تقارير تحليلية، فإن أنصار الله يمتلكون القدرة على توسيع نطاق عملياتهم في حال تصاعد العدوان على غزة أو في حال اتخاذ الكيان الإسرائيلي خطوات عسكرية ضد اليمن، هذا ما يُبقي الضغط البحري قائمًا ومتصاعدًا، ويعقّد من حسابات صناع القرار في تل أبيب.
هل تنجح خطة الإنقاذ؟
الـ15 مليون شيكل المقترحة كتعويض عاجل لا تبدو كافية لضمان بقاء الميناء على قيد الحياة، وخاصة أن استمرت أزمة الملاحة لأشهر إضافية، ومع توقعات بعدم عودة الاستقرار إلى البحر الأحمر في المدى القريب، فإن أي دعم حكومي قد يكون مجرد مسكّن مؤقت وليس حلاً جذريًا.
خبراء اقتصاديون داخل الكيان الإسرائيلي حذروا من أن "مشكلة إيلات ليست مالية فقط، بل لوجستية وجيوسياسية"، وأنه لا يمكن ضمان استمرارية هذا الميناء في ظل تهديد دائم ومفتوح من قبل جماعة تسيطر على مداخل البحر الأحمر.
البحر الأحمر ساحة اختبار للهيبة الإسرائيلية
ما يحدث في إيلات لا يجب قراءته كمجرد "أزمة ملاحية"، بل كدلالة على انتقال المعركة إلى مستوى جديد من الأدوات والوسائل، حيث أصبح الاقتصاد الإسرائيلي نفسه رهينة للسياسات العسكرية والمواقف السياسية في الإقليم.
إن نجاح أنصار الله في فرض معادلة بحرية مع الكيان الإسرائيلي، رغم المسافات الجغرافية الشاسعة، يعيد رسم خطوط التأثير والنفوذ في المنطقة، والأخطر أن هذه الهجمات أثبتت قدرة القوى غير التقليدية على إحداث تأثير اقتصادي مباشر على كيان كبير مثل الكيان الإسرائيلي، مدعومة بالكامل من قبل الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي.
المعركة في البحر الأحمر لم تنتهِ بعد، لكن المؤشرات الاقتصادية من ميناء إيلات تؤكد أن الكينا الإسرائيلي بدأ بالفعل في دفع أثمان باهظة لمعركته في غزة.