الوقت - في قلب البحر الأبيض المتوسط، وتحديدًا قبالة سواحل مرسى مطروح شمال مصر، تبحر سفينة صغيرة تحمل اسمًا عظيمًا في رمزيته: "مادلين".
تبدو هذه السفينة للوهلة الأولى مجرد مركب متواضع الحجم، تقل على متنها اثني عشر ناشطًا، إلا أن ما تحمله أكبر من أي شحنة تقاس بالأطنان: رسالة إنسانية صاخبة في وجه الصمت الدولي، ونداء ضمير يحاول اختراق الجدران السميكة للحصار المفروض على قطاع غزة منذ 17 عامًا.
مَن هي "مادلين"؟
"مادلين" ليست مجرد اسم لسفينة، بل هي تحية رمزية إلى مادلين كلّاب، أول وأصغر صيادة فلسطينية تخوض البحر رغم التهديدات الإسرائيلية والخطر الدائم، وهكذا، صارت "مادلين" رمزًا لصمود النساء الفلسطينيات، ولإرادة الحياة في وجه آلة القتل والخراب.
أُطلقت السفينة من ميناء كاتانيا في جزيرة صقلية الإيطالية، في الأول من يونيو/حزيران 2025، ضمن جهود اللجنة الدولية لكسر الحصار عن غزة وضمن إطار تحالف "أسطول الحرية"، الذي انطلق لأول مرة في 2010، وظلّ منذ ذلك الوقت يوثّق بأجساده وأشرعته انتهاكات "إسرائيل" المستمرة لحقوق الإنسان في القطاع.
رحلة محفوفة بالخطر
تسير "مادلين" الآن في مياه البحر الأبيض المتوسط، وقد أصبحت على بعد ساعات قليلة من الوصول إلى محيط غزة، تقول اللجنة المنظمة إن "الساعات القادمة حاسمة وحرجة"، مشددة على أن "صوتكم هو حمايتنا"، في إشارة إلى ضرورة أن يترافق هذا التحرك الميداني مع تضامن شعبي ودولي ضاغط.
ورغم أن السفينة تحمل على متنها كمية "رمزية" من المساعدات — تشمل دقيقًا، أرزًا، حليبًا للأطفال، مستلزمات طبية، وأطرافًا صناعية — إلا أن قيمة ما تحمله معنويًا أكبر من المساعدات بحد ذاتها: هي تعبير عن الكسر الرمزي للحصار، عن الوقوف في وجه القتل الصامت، عن تحدي منظومة دولية تواطأت بصمتها أو مشاركتها في محاصرة الفلسطينيين.
على متن "مادلين"
يضم طاقم السفينة 12 ناشطًا من جنسيات وخلفيات متنوعة، من بينهم:
غريتا تونبرغ، الناشطة السويدية الشهيرة في قضايا المناخ والعدالة الاجتماعية، التي أكدت أن "العدالة المناخية لا تنفصل عن العدالة الإنسانية".
ريما حسن، النائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي، التي أعلنت من على متن السفينة أن "أي محاولة لاعتراضها تمثل خرقًا فاضحًا للقانون الدولي".
تياغو أفيلا، الناشط البرازيلي الذي أمضى قرابة عقدين في الدفاع عن القضية الفلسطينية.
صحفيون مثل عمر فياض من الجزيرة، ويانيس محمدي من منصة "بلاست" الفرنسية، لتوثيق الرحلة.
وتقول الناشطة الألمانية من أصل كردي ياسمين آجار إن هذه الرحلة "ليست مجرد قافلة إغاثية، بل مقاومة مدنية سلمية"، مضيفة: "إن واجهونا بالعنف، فهي جريمة حرب".
ردّ الفعل الإسرائيلي
كعادتها، لم تنتظر "إسرائيل" كثيرًا لإعلان رفضها وصول السفينة، فحسب تقارير إعلامية عبرية، أصدر جيش الاحتلال أوامر بمنع "مادلين" من الاقتراب من شواطئ غزة، مهددًا باستخدام القوة ضدها، وتُحضّر وحدات من الكوماندوز البحري لعملية "اعتراض" قد تشمل اعتقال الطاقم والمتضامنين، أو سحب السفينة إلى ميناء أسدود.
وليست هذه التهديدات بلا سابقة، فقد سبق أن تعرضت سفن سابقة من "أسطول الحرية" لهجمات، أبرزها سفينة "مافي مرمرة" عام 2010 التي قُتل على متنها عشرة متطوعين أتراك، وكذلك سفينة "الضمير" التي أصيبت بطائرة مسيّرة إسرائيلية في مايو/أيار الماضي.
صمت دولي... وجرائم موثقة
تأتي رحلة "مادلين" في وقت يتعرض فيه قطاع غزة لحرب إبادة جماعية منذ الـ 7 من أكتوبر/تشرين الأول 2023، خلفت ما يزيد على 180 ألف قتيل وجريح، معظمهم من الأطفال والنساء، وما يفوق 11 ألف مفقود، حسب الأرقام الصادرة عن الجهات المحلية.
ومنذ الـ 2 من مارس/آذار 2024، شددت "إسرائيل" حصارها على القطاع عبر إغلاق المعابر بشكل كامل، ما أدى إلى تجويع أكثر من 2.4 مليون فلسطيني، في سياسة وصفتها منظمات حقوقية دولية بأنها "تمهيد للتهجير القسري"، وجريمة ضد الإنسانية.
موقف المنظمات الدولية
اللافت في الأمر هو أن الرحلة تحظى بدعم برلمانيين ومنظمات أوروبية، غير أن هذا الدعم لم يتحوّل بعد إلى موقف سياسي رسمي ضاغط على "إسرائيل"، ورغم أن السفينة ترفع علم المملكة المتحدة، ما يُفترض أن يُلزم لندن بحمايتها، إلا أن أي تحرك بريطاني بهذا الصدد لا يزال غائبًا.
بين الرمزية والتغيير الحقيقي
صحيح أن "مادلين" قد لا تكون قادرة على إدخال كميات كبيرة من المساعدات، وقد تعترضها "إسرائيل" أو تمنعها من الرسو، لكن قيمة هذا التحرك تكمن في إحداث أثر إعلامي وشعبي وإنساني عالمي، هو شكل من أشكال كسر الحصار الرمزي، وتحريك الضمير الدولي الغافي، وتذكير العالم بأن غزة ليست مجرد عنوان عابر في نشرات الأخبار، بل أرضًا يقطنها بشرٌ لهم حقّ في الحياة والكرامة.
نداء إلى العالم: هذا ليس وقت الصمت
قالت اللجنة الدولية لكسر الحصار في منشورها على "إكس": "كل ساعة نقترب أميالًا أكثر نحو غزة، وعلى بُعد أميال قليلة فقط، هناك أطفال ورضّع في أمسّ الحاجة إلى مياه نظيفة، وطعام، ودواء، بينما يعيشون تحت وابل لا ينقطع من الغارات الجوية الصهيونية، ومع ذلك، يشاهد المليارات بصمت، هذا ليس وقت الصمت".
في عالم تتنازعه المصالح وتُقايَض فيه حقوق الإنسان على طاولة السياسة، تظل سفينة "مادلين" نقطة ضوء صغيرة في ظلام الحصار، ومشهدًا إنسانيًا عالي الدلالة، قد تصل وقد تُحتجز، قد تُهاجَم أو تُمنع، لكنها بالتأكيد قد فعلت ما هو أهم: أيقظت ضميرًا، ورفعت صوتًا، وفضحت صمتًا.
وربما، حين يُكتَب تاريخ هذه المرحلة القاتمة، ستُذكَر "مادلين" لا بوصفها مجرد سفينة، بل كصرخة في وجه الحصار، وكسطر مقاومة في رواية طويلة من القهر والبطولة.