الوقت- في مشهد من الانحطاط القانوني و الأخلاقي يعكس انحرافًا صارخًا عن مبادئ العدالة الدولية، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على أربع قاضيات في المحكمة الجنائية الدولية، وذلك في خطوة اعتبرها محللون ومؤسسات حقوقية "عدوانًا سياسياً سافرًا" على القضاء الدولي. هذه العقوبات جاءت ردًا على قرارات اتخذتها المحكمة تتعلق بمذكرة توقيف رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق على خلفية جرائم حرب ارتُكبت في قطاع غزة. وبذلك، تضع واشنطن نفسها، لا كراعٍ للشرعية الدولية كما تزعم، بل كشريك مباشر في جرائم الإبادة الجماعية التي يشهدها قطاع غزة منذ أكثر من ثمانية أشهر.
وسط هذا التصعيد الأمريكي المقلق، توالت ردود الأفعال الدولية المستنكرة، أبرزها من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، والتي شددت على خطورة استهداف القضاة لقيامهم بواجبهم المهني، مؤكدة أن هذه العقوبات تهدد استقلالية القضاء وتقوض أسس النظام القانوني العالمي. فما الذي يعنيه هذا التصعيد الأمريكي في سياق الحرب الإسرائيلية على غزة؟ وهل باتت واشنطن تتخلى علنًا عن القانون الدولي لصالح دعمها اللامحدود لكيان متهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية؟ وكيف يمكن فهم هذه العقوبات في إطار التحالف الأمريكي الإسرائيلي الممتد من الدعم العسكري إلى الحماية السياسية والقضائية؟ هذا ما تحاول المقالة الآتية تسليط الضوء عليه.
أمريكا ضد العدالة... عقوبات استثنائية على قضاة المحكمة الجنائية الدولية
في خطوة غير مسبوقة، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية فرض عقوبات على أربع قاضيات يعملن في المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي، على خلفية قضايا تتعلق بالحرب في غزة والتحقيقات في جرائم حرب أميركية في أفغانستان. تشمل العقوبات حظر دخول الولايات المتحدة وتجميد الأصول المحتملة داخل أراضيها، وهي إجراءات عادة ما تُفرض على زعماء دول متهمة بالإرهاب أو ارتكاب فظائع، وليس على شخصيات قضائية مستقلة.
المستهدفات الأربع هنّ:
بيتي هولر (سلوفينيا)
رين ألابيني غانسو (بنين)
لوث ديل كارمن إيبانيث كارانثا (بيرو)
سولومي بالونغي بوسا (أوغندا)
ويعود السبب المباشر لهذه العقوبات إلى مشاركة بعض هؤلاء القاضيات في إصدار مذكرة توقيف بحق نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، بناء على "أسباب معقولة" بضلوعهما في جريمة استخدام التجويع كسلاح في الحرب على غزة، وهي إحدى أبشع جرائم الحرب المحظورة بموجب القانون الدولي.
الدعم الأمريكي للاحتلال الإسرائيلي... من التسليح إلى تكميم العدالة
منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر 2023، دعمت الولايات المتحدة الاحتلال الإسرائيلي سياسيًا وعسكريًا، عبر صفقات الأسلحة، وتوفير الغطاء الدبلوماسي في مجلس الأمن، بل وحتى بمنع وقف إطلاق النار أكثر من مرة. أما اليوم، فهي تنتقل إلى مستوى جديد: تجريم القضاة الدوليين الذين يحاولون مساءلة مجرمي الحرب، وعلى رأسهم نتنياهو.
لقد صرح وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو بوضوح أن واشنطن ستتخذ "كل الإجراءات اللازمة" لحماية إسرائيل من "التحركات غير القانونية" للمحكمة، وكأن العدالة صارت خرقًا للقانون! بل إن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، الذي أعاد نتنياهو شكره علنًا، اعتبر هذه القاضيات "مسيسات"، في محاولة لتشويه عمل المحكمة وتحييدها عن النظر في قضايا تتعلق بحلفاء واشنطن.
هذه السياسة الأمريكية لا تنفصل عن نمط معروف: كل من يجرؤ على فضح أو مساءلة إسرائيل – سواء كانوا صحفيين أو قضاة أو مسؤولين أمميين – يُستهدف مباشرة بالترهيب أو العقوبات.
صدمة أوروبية وأممية... مواجهة قانونية ضد واشنطن
قوبلت العقوبات الأمريكية بسيل من الإدانات الدولية، في طليعتها الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي. فقد دعا مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، فولكر تورك، واشنطن إلى التراجع فورًا عن هذه الخطوة التي وصفها بأنها "انتهاك لسيادة القانون الدولي"، مؤكدًا أن "استهداف القضاة بسبب أداء مهامهم القضائية أمر مرفوض وخطر للغاية".
كما كتب رئيس المجلس الأوروبي أنتونيو كوستا على منصة "إكس":
"المحكمة الجنائية الدولية لا تواجه الدول، بل تواجه الإفلات من العقاب. علينا أن نحمي استقلاليتها ومصداقيتها. حكم القانون يجب أن يسود على حكم القوة".
ولعل الموقف الأوروبي هذا يعكس قلقًا عميقًا من تداعيات الهيمنة الأمريكية على مؤسسات العدالة الدولية، إذ أن تقويض المحكمة يعني عمليًا أن لا أحد في العالم بات آمنًا من سطوة القوة إذا تعارضت مع مصالح واشنطن أو تل أبيب.
مشاركة أمريكية في الجريمة... من غزة إلى لاهاي
إن العقوبات الأمريكية ضد المحكمة الجنائية الدولية لا يمكن فصلها عن المشهد اليومي في غزة: مجازر جماعية، تجويع، قصف للمدارس والمستشفيات، ومنع دخول المساعدات. كل هذه الجرائم وثّقتها منظمات حقوقية دولية، وتُحقق فيها المحكمة الجنائية اليوم.
وبفرضها هذه العقوبات، تقول واشنطن للمجتمع الدولي بكل وضوح:
"لن نسمح لأحد بمحاسبة إسرائيل، ولو كان قاضيًا مستقلًا يعمل بموجب القانون".
هذه الخطوة تجعل من الولايات المتحدة شريكًا مباشرًا في الإبادة الجماعية التي تقع في غزة، لا سيما وأن المحكمة وجهت اتهامات مباشرة لنتنياهو باستخدام "التجويع كسلاح"، وهو ما أكده خبراء دوليون، ووسائل إعلام كـBBC والجزيرة ومنظمة الصحة العالمية، التي تحدثت عن مجاعة وشيكة تهدد مئات الآلاف من الفلسطينيين، خاصة الأطفال والرضّع.
تداعيات خطيرة على مستقبل القضاء الدولي
في حال نجاح الولايات المتحدة في ترهيب المحكمة الجنائية الدولية وإخضاعها أو عرقلة عملها، فإن ذلك سيشكل سابقة خطيرة تؤدي إلى انهيار مبدأ "المساءلة الدولية". وهو ما يخدم بالدرجة الأولى الأنظمة الديكتاتورية، والجيوش المحتلة، وكل من يمارس القتل والتدمير تحت حماية "الفيتو الأميركي".
لكن في المقابل، فإن الدعم الأوروبي والأممي المتزايد للمحكمة يمكن أن يمثل حجر عثرة في وجه الهيمنة الأميركية، ويعزز دور المحكمة كجهة قادرة، ولو نظريًا، على مقاضاة مجرمي الحرب، مهما كانت مواقعهم أو دولهم.
ختام القول
بينما يسقط أطفال غزة تحت أنقاض البيوت المحاصرة والمحرومة من الدواء والغذاء، وبينما تسعى المحكمة الجنائية الدولية لأداء واجبها الأخلاقي والقانوني، تصرّ واشنطن على الوقوف في صف الجلاد لا الضحية، في صف من يتحدى القانون لا من يُجسّده. وفي هذه اللحظة التاريخية، لم يعد الصمت خيارًا، ولا الحياد مبررًا. فإما أن تنتصر العدالة وتعلو فوق سياسات القوة، أو يُترك العالم لمصير تعصف به شريعة الغاب، حيث تُكافأ الإبادة وتُعاقب المحاسبة.