الوقت- تعيش القضية الفلسطينية اليوم واحدة من أكثر مراحلها تعقيدًا، حيث تشتبك السياسة مع المقاومة، والمفاوضات مع الخداع الدولي، وتتعاظم التضحيات في ظل صمت دولي مطبق.
في خضم هذه الأحداث، يأتي موقف حركة حماس ليعكس ليس فقط رفضها للانصياع للإملاءات الخارجية، بل إصرارها على صياغة المعادلة وفق ميزان قوى حقيقي، تفرضه الميدان لا الموائد الدبلوماسية وحدها. التصريحات الأخيرة للقيادي محمد نزال تكشف بوضوح طبيعة الأزمة الاحتلال الإسرائيلي، مدعومًا من الولايات المتحدة، يماطل في وقف الحرب ويستغل كل هدنة كفرصة لتعزيز مكاسبه العسكرية والسياسية.
في المقابل، تبني حماس موقفها على قاعدة المقاومة المسلحة، والإيمان بعدالة القضية، ورفض أي حلول منقوصة تعيد إنتاج الهزيمة، من هنا، تتبلور معادلة جديدة في الصراع: لا وقف لإطلاق النار دون ضمانات حقيقية، ولا مفاوضات دون توازن قوى.
فشل المسار التفاوضي وأسباب تعثر وقف إطلاق النار
من خلال تصريحات محمد نزال، يتضح أن تعثر مفاوضات وقف إطلاق النار لا يعود إلى تعنت حماس كما تحاول بعض القوى الغربية تصويره، بل إلى حسابات إسرائيلية داخلية وخارجية معقّدة.
بنيامين نتنياهو، المحاصر داخليًا بأزمات سياسية وتهديدات بإسقاط حكومته، لا يريد إنهاء الحرب ما دامت تحقق له غطاءً سياسيًا يُبقيه في السلطة، كما أن الأهداف الاستراتيجية التي أعلنها الكيان كتدمير المقاومة وتهجير السكان وفرض نظام عميل في غزة لم تتحقق، ما يجعله متمسكًا باستمرار العمليات العسكرية.
هذا التعثر يكشف أيضًا عن الوجه الحقيقي للدور الأمريكي، الذي لا يخرج عن كونه غطاءً دبلوماسيًا لاستمرار العدوان، رغم ادعائه القيام بدور الوسيط، حركة حماس من جهتها رفضت الوقوع في فخ هدنة قصيرة تُمكّن الاحتلال من إعادة ترتيب صفوفه، وأكدت أن أي اتفاق يجب أن يكون مشروطًا بوقف نهائي للحرب، وإدخال المساعدات، وإعادة إعمار القطاع، هذا الموقف يكشف عن نضج سياسي وإدراك حقيقي لمجريات المعركة، ويعكس استراتيجية مقاومة متماسكة لا تقبل بالمساومات المجتزأة أو الحلول المؤقتة.
المقاومة المسلحة كخيار استراتيجي وليس تكتيكيًا
البيان السياسي لمحمد نزال يؤكد أن خيار المقاومة المسلحة ليس ردّ فعل انفعالي، بل هو خيار استراتيجي مدروس نابع من قناعة حماس بأن الاحتلال لا يفهم سوى لغة القوة، فعندما تدخل قوات الاحتلال بعتادها إلى غزة، لا يمكن أن تقابلها المقاومة بالصمت أو الانتظار، بل بالمواجهة العسكرية الحاسمة.
هذا الفهم للميدان، وتحليل طبيعة الخصم، هو ما دفع كتائب القسام إلى تنفيذ عمليات نوعية في جباليا والشجاعية، كرسائل واضحة بأن اليد العسكرية للمقاومة لا تزال قادرة ومباغتة، وهذه العمليات لا تُعرقل المفاوضات كما يروّج البعض، بل على العكس، تعزز من موقع حماس التفاوضي بفرضها معادلة الردع.
في هذا السياق، تسعى حماس إلى الحفاظ على توازن القوى، بحيث لا يتحول وقف إطلاق النار إلى أداة لإذلال المقاومة أو تفكيكها، المقاومة المسلحة هنا ليست خيارًا يائسًا، بل امتداد لعقيدة نضالية ترى أن الحقوق تُنتزع بالقوة وليس عبر الاستجداء السياسي، وهذا ما يجعل الحركة قادرة على التفاوض من موقع الند للند، لا من موقع الضعف.
ازدواجية المعركة بين الميدان والدبلوماسية
واحدة من أهم النقاط التي أبرزها نزال هي أن المعركة مع الاحتلال الصهيوني لم تعد محصورة في الميدان العسكري فقط، بل امتدت لتشمل ساحات الإعلام والسياسة والقانون الدولي، حماس اليوم تخوض حرباً متعددة الجبهات، وقد نجحت وفق ما أوضح نزال في فرض حضورها حتى على طاولة التفاوض مع الولايات المتحدة، رغم تصنيفها الأمريكي لها كمنظمة إرهابية.
هذا التطور يكشف عن تغير كبير في التوازنات الدولية، ويبرهن على أن حماس لم تعد مجرد فصيل محلي مقاوم، بل باتت لاعبًا سياسيًا له وزنه في المعادلة الإقليمية والدولية، الحرب على الرواية، كما وصفها نزال، كانت حاسمة في كشف جرائم الاحتلال، ما أدى إلى تغيّر مواقف بعض الدول الأوروبية تجاه "إسرائيل".
هذا الوعي السياسي من جانب حماس يعكس تطورًا في أدواتها، من مجرد مقاومة عسكرية إلى دبلوماسية نشطة مدعومة بواقع شعبي وصورة إنسانية متنامية، إنها مقاومة شاملة، تتعامل مع كل أدوات الضغط الممكنة، وتراهن على صمود شعبها وشرعية قضيتها، وليس على وساطة دولية منحازة.
مشروع وِيتكاف وازدواجية "الوسيط الأمريكي"
مقاربة الولايات المتحدة للأزمة في غزة لا يمكن قراءتها بمعزل عن مصالحها الاستراتيجية في المنطقة وتحالفها غير المشروط مع الكيان الصهيوني، رغم أن واشنطن تدّعي لعب دور الوسيط عبر مبعوثها ستيف ويتكاف، إلا أن بنود المقترح الذي قدمه تعكس انحيازًا واضحًا للاحتلال.
الاقتراح الذي يتحدث عن وقف إطلاق نار مؤقت لسبعة أيام مقابل الإفراج عن بعض الأسرى الإسرائيليين، دون ضمانات لإنهاء الحرب أو إدخال مساعدات دائمة، يفتقر إلى الحد الأدنى من متطلبات العدالة والإنصاف. حماس، رغم إدراكها لهذه الثغرات، قبلت بالتعاطي مع المقترح كإطار تفاوضي، وقدمت ملاحظات جوهرية، ما يدل على مرونتها السياسية ورغبتها في حقن الدماء، لكن الاستمرار في طرح مبادرات تُمنح فيها "إسرائيل" حرية العودة إلى القتال بعد تحقيق أهدافها، يعكس فشلًا أخلاقيًا للمجتمع الدولي، وتواطؤًا واضحًا من الوسيط الأمريكي.
رفض حماس للوقوع في فخ التهدئة المؤقتة ينبع من تجاربها السابقة، حيث استُغلت الهدنات مرارًا لإعادة تموضع الاحتلال وتعزيز حصاره، من هنا يتضح أن معركة حماس ليست فقط ضد الاحتلال، بل ضد نظام دولي منحاز، لا يعترف بحق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم، ويُجرّم مقاومتهم بينما يصمت عن جرائم الإبادة التي تُرتكب بحقهم يوميًا.
شروط حماس... ثوابت لا تنازلات
تضع حماس في صلب موقفها التفاوضي ثلاثة شروط رئيسية لا تقبل النقاش وقف كامل ودائم للحرب، إدخال مستمر وغير مشروط للمساعدات الإنسانية، وبدء عملية شاملة لإعادة إعمار قطاع غزة، هذه الشروط ليست شروطًا تعجيزية، بل تمثل الحد الأدنى من حقوق شعب يواجه إبادة جماعية منذ شهور.
التنازل عنها سيكون بمثابة خيانة لدماء الشهداء، وتفريط في نضال عقود من الصمود، في الوقت الذي يسعى فيه الاحتلال إلى فرض شروطه من موقع القوة، تؤكد حماس أن الكفة العسكرية وحدها لا تكفي، وأن المقاومة أثبتت قدرتها على الصمود والمباغتة رغم الفارق الهائل في الإمكانات.
كما أن إدراج قضية الأسرى ضمن هذه الشروط يعكس التزام حماس بأبعادها الإنسانية والوطنية في آنٍ معًا، حيث تصر على إطلاق سراح مئات المعتقلين الفلسطينيين، بمن فيهم المحكومون بالمؤبد. موقف الحركة ليس تعنتًا، بل رؤية سياسية نابعة من تجربة طويلة مع المفاوضات والهدنات الفاشلة، وتجارب "أوسلو" خير شاهد. ولهذا، فإن أي اتفاق لا يتضمن ضمانات حقيقية مكتوبة وموثقة لإنهاء العدوان ورفع الحصار، سيكون مجرد هدنة هشة أخرى في سجل طويل من الخداع، حماس هنا لا تتصرف كفصيل معزول، بل كقيادة وطنية تتحدث باسم شعب ينزف، ويرفض أن يُخدع مرة أخرى.
في النهاية،تكشف تصريحات محمد نزال عن نضج سياسي وعسكري متكامل لدى حركة حماس، يجمع بين الصلابة في الميدان والمرونة في التفاوض، وبين الثبات على المبادئ والقدرة على المناورة، معركة غزة ليست فقط معركة رصاص وقنابل، بل معركة وعي وإرادة وشروط كرامة.
حماس لا تفاوض من موقع الاستسلام، بل من موقع الفاعل الذي فرض نفسه على الساحة الإقليمية والدولية، وأعاد رسم المعادلة من جديد. الاحتلال، رغم امتلاكه أدوات القتل والدعم الغربي، يواجه أزمة استراتيجية حقيقية لم يحقق أهدافه، ولم ينجح في كسر إرادة المقاومة، ويفقد تدريجيًا تأييد الرأي العام العالمي. في المقابل، تكتسب حماس دعمًا شعبيًا داخليًا وعربيًا ودوليًا غير مسبوق، نتيجة صمودها وثبات خطابها السياسي والأخلاقي. المرحلة القادمة ستكون فاصلة: فإما أن تنجح حماس ومعها فصائل المقاومة في فرض شروط هدنة عادلة تحفظ الكرامة، أو تستمر المواجهة حتى يتحقق التوازن بالقوة.
في كلتا الحالتين، تثبت الحركة أن المقاومة ليست مجرد رد فعل، بل مشروع تحرر شامل، لا يعرف اليأس، ولا يقبل بأنصاف الحلول، وهنا يتأكد مرة أخرى أن الكلمة الأخيرة في هذا الصراع ليست للدبابات، بل لأصحاب الأرض، ولمن يحملون قضيته في سلاحهم، وفي وجدانهم.