الوقت - في تقرير بالغ الأهمية نشرته مجلة “الإيكونوميست”، تناولت فيه قصة مردخاي ممان، ذلك السبعيني الإسرائيلي المعروف في أوساطه بـ"موتي"، الذي طالما صاحبه الإخفاق في مسيرة حياته، فقد تحطمت سفينة زواجه على صخرة الفشل منذ سنوات خلت، وتهاوت مشاريعه التجارية المتعددة الواحد تلو الآخر كأوراق الخريف، وظل يئنّ تحت وطأة الضائقة المالية المستديمة.
بيد أن فجر عام 2024 حمل إليه بارقة أمل تُبدد ظلمات يأسه: فقد شقّ أبناؤه الأربعة طريقهم في دروب الحياة، وعقد شراكةً تجاريةً مع اثنين من رجال الأعمال، ووقع في شراك الهوى مع امرأة بيلاروسية، والعشق، كما هو معلوم، قد يدفع صاحبه إلى مهاوي الجنون ومزالق الخطر، وفي حالة ممان، دفعه شغفه الجارف بإرضاء معشوقته، إلى الانزلاق في مستنقع الخيانة العظمى لوطنه "إسرائيل".
وقد عُرف لعقود طويلة بوطنيته المتأججة وولائه المطلق لبنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الصهيوني، وكان يجاهر بآرائه اليمينية المعادية للعرب عبر منصة فيسبوك، غير أنه أصاب عائلته وأصدقاءه بصدمة هائلة حين انكشف أمره وتبيّن أنه كان يتجسس لمصلحة العدو اللدود لـ "إسرائيل"، الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ووفقاً لما جاء في تقرير جهاز “شين بيت” (جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي)، فإن ممان ليس سوى واحد من تسعة وثلاثين إسرائيلياً وقعوا في قبضة الأمن خلال العام الماضي بشبهة التجسس لمصلحة طهران، وكشف أحد كبار مسؤولي هذا الجهاز أنه منذ انقضاء عام 2022، نجحت الآلة الاستخباراتية الإيرانية في استمالة واستقطاب مئات الإسرائيليين.
ينحدر هؤلاء المجنَّدون، الذين تم اصطيادهم عبر شبكات التواصل الاجتماعي أو أثناء تنقلاتهم في تركيا وجمهورية أذربيجان، من شتى الشرائح المجتمعية: يهود وعرب، متدينون وعلمانيون، فتيان وشيوخ، رجال ونساء.
لطالما تباهت "إسرائيل" بتفوقها في ميدان التجسس واختراق صفوف أعدائها، ويرى بعض المحللين أن تصاعد منحنى الخيانة بين أبناء الدولة العبرية، يعكس حالةً من الإحباط المجتمعي العميق الذي ينخر في جسد المجتمع الإسرائيلي، وتستبد المخاوف بالمسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، وفي هذا السياق، صرح أحد القيادات السابقة في “شين بيت” قائلاً: “يتحتم علينا أن نردع الآخرين عن مدّ يد العون لألدّ أعدائنا، قبل أن يستفحل الأمر ويتحول إلى وباء يستشري في جسد الوطن”.
في شهر نوفمبر من عام 2024، أقرّ ممان بالتهم الموجهة إليه، وأصدرت المحكمة حكمها عليه بالسجن لمدة ست سنوات، وقال القاضي في حيثيات الحكم: “تكشف هذه القضية كيف يمكن لشخص تحركه دوافع شخصية وطمع مادي، أن ينحدر بسرعة مذهلة نحو التعاون مع العدو”.
ويؤكد جهاز “شين بيت” أن ممان ليس حالةً فريدةً في نوعها. فخلال الاثني عشر شهراً الماضية، بلغ عدد الأشخاص الذين تورطوا في التجسس لمصلحة إيران مستويات غير مسبوقة، بعضهم كانت تحركه دوافع مالية بحتة، وآخرون اتخذوا من الغضب تجاه الحكومة الإسرائيلية أو التعاطف مع القضية الفلسطينية، ذريعةً لخيانتهم، وفي هذا الصدد، صرح مسؤول رفيع في “شين بيت” قائلاً: “نحن نواجه ظاهرةً خطيرةً إذا لم يتم كبح جماحها، فإنها قد تتحول إلى تهديد جسيم يطال أمن الدولة وسلامتها”.
ومن بين هؤلاء الجواسيس أشخاص من خلفيات متباينة: عرب إسرائيليون، ويهود وفدوا من أراضي الاتحاد السوفيتي السابق، وحتى يهود متشددون في تدينهم، بعضهم، على شاكلة ممان، كانوا أشخاصاً منكسرين، منعزلين، هشّي النفوس، استمالهم بريق المال أو لهيب الإثارة، وآخرون كانوا على دراية تامة بهوية الجهات التي يعملون لمصلحتها.
لقد دأبت إيران منذ أمد بعيد على تنفيذ عملياتها الاستخباراتية متخذةً من دول ثالثة جسوراً لها، وخاصة تركيا وجمهورية أذربيجان، وغالباً ما تغضّ الأجهزة الأمنية في هذه البلدان الطرف عن هذه الأنشطة، أو تكون هي ذاتها متورطةً فيها، في إحدى الوقائع، ألقي القبض على امرأة تحمل الجنسيتين الإسرائيلية والروسية في جمهورية أذربيجان، كانت تجمع معلومات لحساب إيران، وكشفت التحقيقات معها أنها استُدرجت عبر حساب مزيّف على تطبيق تليغرام، وكانت تعتقد أنها تعمل في خدمة رجل أعمال إماراتي.
تتبع أجهزة الاستخبارات الإيرانية أساليب متعددة ومتنوعة في عملياتها، يقول أحد ضباط “شين بيت”: “إنهم أساتذة في فن استغلال نقاط الضعف النفسية والشخصية لدى ضحاياهم”.