الوقت - في خطوة مفاجئة وغير مسبوقة، أعلنت الناشطة البيئية السويدية جريتا ثونبرج، ذات الـ22 عاماً، انضمامها إلى المهمة الإنسانية التي ينظمها "تحالف أسطول الحرية" (Freedom Flotilla Coalition) إلى قطاع غزة، على متن سفينة "مادلين"، احتجاجًا على الحصار الإسرائيلي وإيصالاً للمساعدات الإنسانية لسكان القطاع المحاصر.
هذه الخطوة الجريئة من ثونبرج، المعروفة عالميًا بصوتها العالي في الدفاع عن المناخ، تعيد ربط النضال من أجل البيئة بالنضال من أجل الحقوق والعدالة الإنسانية.
من المناخ إلى غزة: توسيع ساحات النضال
صرّحت ثونبرج قبل انطلاقها ضمن الرحلة الإنسانية قائلة: "لا يمكن للعالم أن يقف مكتوف الأيدي، فنحن نشهد تجويعًا ممنهجًا لمليوني شخص، كل فرد منا عليه التزام أخلاقي ببذل كل ما في وسعه للنضال من أجل فلسطين حرة"، بهذا التصريح، تجاوزت الناشطة السويدية المفهوم التقليدي للعدالة البيئية لتضع نفسها في قلب أحد أكثر القضايا السياسية والإنسانية إثارة للجدل عالميًا.
سفينة "مادلين" ليست مجرد وسيلة نقل، بل منصة احتجاجية رمزية، تحمل على متنها نشطاء ومساعدات إنسانية، في محاولة لاختراق الحصار البحري الذي تفرضه "إسرائيل" على غزة منذ أكثر من 17 عامًا.
عاصفة من الانتقادات الإسرائيلية والغربية
ما إن أعلنت ثونبرج مشاركتها، حتى انهالت عليها الانتقادات من شخصيات ومؤسسات إعلامية إسرائيلية وغربية، دانيكا دي جورجيو، مقدمة البرامج في "سكاي نيوز أستراليا"، سخرت من الخطوة قائلة: "إنها تبحر إلى غزة كما لو كانت وجهة مثالية لقضاء العطلات"، أما مستشارة الاتصالات رو ماكسوين فوصفتها بأنها "إرهابية في ثوب متحضر".
وفي هجوم أكثر حدة، نشرت صحيفة "ذا تايمز أوف إسرائيل" مدونة تشكك في نواياها وتتّهمها بتجاهل تعقيدات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وذهبت الصحيفة إلى حد اتهامها بازدواجية المعايير، قائلة: "إذا كانت جريتا تؤمن حقًا بالعدالة المناخية، فلماذا لا تتطرق إلى الأضرار البيئية التي تسببها حماس؟".
من هي جريتا ثونبرج؟
وُلدت جريتا في ستوكهولم عام 2003، لأسرة فنية، فوالدتها مغنية أوبرا ووالدها ممثل، شُخِّصت بمتلازمة أسبرجر في سن الحادية عشرة، وبدأت نشاطها البيئي في عمر الخامسة عشرة عندما نظمت أول إضراب مدرسي من أجل المناخ أمام البرلمان السويدي عام 2018، وهو ما تحوّل لاحقًا إلى حركة عالمية تحت عنوان "أيام الجمعة من أجل المستقبل".
تُعد ثونبرج اليوم من أبرز الوجوه الشبابية المؤثرة في قضايا التغير المناخي، وقد نالت العديد من الجوائز والتكريمات، بينها جائزة سبل العيش الصحيحة، وجائزة "سفيرة الضمير" من منظمة العفو الدولية، وأدرجتها مجلة فوربس ضمن قائمة أقوى 100 امرأة في العالم.
ثونبرج وموقفها من "إسرائيل"
لطالما عبّرت ثونبرج عن تضامنها مع الفلسطينيين وانتقادها الصريح للسياسات الإسرائيلية، ففي سبتمبر 2024، أُلقي القبض عليها خلال مظاهرة طلابية في جامعة كوبنهاغن دعت إلى "مقاطعة أكاديمية" لـ"إسرائيل"، كما وصفت الحرب على غزة في مقال رأي بصحيفة "الجارديان" عام 2023 بـ"الإبادة الجماعية"، بل ذهبت أبعد من ذلك عندما قالت علنًا إنها تريد "سحق الصهيونية".
جبهة ثقافية عالمية تتشكل
خطوة ثونبرج جاءت في وقت تتصاعد فيه أصوات الفن والثقافة في وجه الحرب الإسرائيلية على غزة، أكثر من 300 شخصية ثقافية وفنية في بريطانيا، بينهم الممثل بينيديكت كومبرباتش، والمغنية دوا ليبا، والممثل ريز أحمد، وقعوا على رسالة مفتوحة إلى رئيس الوزراء كير ستارمر، مطالبين بتعليق مبيعات الأسلحة لـ"إسرائيل" والدعوة إلى وقف إطلاق النار.
الرسالة، التي نُشرت على منصة "ميديوم"، طالبت بإجراءات فورية لوقف "تواطؤ المملكة المتحدة في الفظاعات في غزة"، ودعت إلى "فتح ممر إنساني آمن ومستمر لإيصال المساعدات"، معتبرةً أن "الإبادة الجماعية لم تعد محل جدل، بل حقيقة قانونية وأخلاقية".
الغضب الشعبي يترجم إلى خطوات سياسية
انعكست هذه الضغوط الثقافية والشعبية على مواقف الحكومة البريطانية، التي علّقت مفاوضات اتفاق التجارة الحرة مع "إسرائيل"، واستدعت سفيرة تل أبيب في لندن، كما تم تعليق نحو ثلاثين ترخيصًا لتصدير الأسلحة إلى "إسرائيل" بسبب "خطر استخدامها في انتهاكات للقانون الدولي في غزة"، حسب تصريحات رسمية.
وتخوض منظمات غير حكومية معارك قضائية للمطالبة بوقف شامل لتصدير أي قطع تُستخدم في تجهيز المقاتلات الأمريكية "إف-35"، التي تعتمدها "إسرائيل" في عملياتها العسكرية في القطاع.
أرقام دامية وحصار قاتل
أعلنت وزارة الصحة في غزة أن أكثر من 54,000 فلسطيني استشهدوا منذ بداية العدوان الإسرائيلي، معظمهم من المدنيين، بينهم آلاف الأطفال، وفي المقابل، أعلنت "إسرائيل" مقتل 1218 شخصاً في عملية "طوفان الأقصى"، ولا يزال 57 شخصاً محتجزين في غزة، حسب الجيش الإسرائيلي.
وفي ظل هذا الوضع الكارثي، أعلنت "إسرائيل" جزئيًا تخفيف الحصار الذي فرضته في مارس 2024، ما سمح بدخول بعض شحنات المساعدات، ولكن المنظمات الحقوقية تؤكد أن الكميات لا تزال غير كافية لإنهاء المجاعة.
حين تُبحر القيم إلى غزة
رحلة جريتا ثونبرج على متن "مادلين" ليست فقط مسعى إنسانيًا، بل هي رسالة صارخة إلى العالم، أن النضال من أجل المناخ لا يمكن فصله عن النضال من أجل العدالة، وأن الدفاع عن البيئة لا يكتمل دون الدفاع عن الشعوب المقهورة والمحاصرة.
وبينما تواصل الأبواق السياسية والإعلامية اتهامها بـ"النفاق" و"الجهل"، تصر ثونبرج على مواقفها الأخلاقية، وتربط نضالها البيئي بمطلب إنساني صارخ: أن يكون للعدالة مكان، حتى في أكثر الأماكن اختناقًا تحت الحصار.
