الوقت- في لحظة فاصلة قد تعيد رسم ملامح العدالة الدولية تجاه سوريا، وتكسر هيمنة الرواية التقليدية حول الضحية والجلاد، وافق القضاء الفرنسي على النظر في شكوى جنائية هي الأولى من نوعها، تتهم الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع وعددًا من وزرائه بارتكاب جرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي، ليس ضد المعارضة، ولا ضد المكوّن السنّي، بل ضد أبناء الطائفة العلوية نفسها، الذين لطالما قُدّموا كحلفاء طبيعيين للنظام.
الملف، الذي تنظر فيه محكمة باريس بناءً على دعوى تقدّم بها "التجمع الفرنسي-العلوي"، يمثل منعطفًا قانونيًا وسياسيًا نادرًا في تاريخ الأزمة السورية، ويهدد بإعادة خلط أوراق التحالفات الداخلية والخارجية، معيدًا النقاش الدولي حول مفهوم "السلطة" و"الهوية الطائفية" في سياق دولة انهكتها الحرب منذ أكثر من عقد.
بين تقارير ميدانية وشهادات رعب: متى أصبحت الضحية من داخل النظام؟
مصادر الدعوى لا تستند فقط إلى تحليل سياسي أو استنتاجات نظرية، بل ترتكز على عشرات الشهادات والتقارير الميدانية الموثقة، من بينها تقارير صحفية، أبرزها ما نشرته شبكة "يورونيوز" حول مجازر الساحل السوري خلال الأشهر الماضية، ففي شهادة مؤلمة، روت ناجية من إحدى القرى المتضررة كيف تحوّلت الحياة اليومية إلى سلسلة من الكوابيس، حيث النساء يفقدن بناتهن، والشباب يُغتالون على الطرقات، والجثث تُلقى أمام أبواب البيوت كرسائل سياسية مشفّرة.
قالت السيدة، التي فضّلت عدم كشف هويتها: "لا يوجد بيت لم يدفن ابنًا أو يودّع شقيقة مختفية، بعض العائلات تُجبر على إعلان وفاة بناتها بينما الحقيقة أنهن محتجزات كأسيرات حرب، دون أي صوت عالمي يسمعنا"، وأضافت: "القتل هنا لا يتم باسم العقيدة بل باسم الخوف من التمرّد".
فرنسا أمام اختبار القضاء الشامل: هل تنجح المحاكم الأوروبية حيث فشل مجلس الأمن؟
الباحث الفرنسي في القانون الجنائي الدولي، جيوم دوما، اعتبر أن هذه القضية تُمثّل "فتحًا قضائيًا" في ما يخص مبدأ الولاية القضائية العالمية، والذي يتيح لدول مثل فرنسا محاكمة مرتكبي جرائم الحرب بغض النظر عن مكان وقوعها أو جنسية الضحايا، وقال: "ما يميز هذه القضية ليس فقط بشاعتها، بل توقيتها، فهي تتحدث عن جرائم وقعت في 2024 و2025، ما يُخرجها من أرشيف الحرب ويضعها في صلب الراهن السياسي".
تضم لائحة المتهمين، إلى جانب الرئيس الشرع، وزير الدفاع مرهف أبو قصرة، ووزير الخارجية أسعد الشيباني، ووزير الداخلية أنس خطّاب، إضافة إلى قائد الفرقة 25 محمد الجاسم، وهي القوة العسكرية التي يتهمها شهود ومراقبون بارتكاب المجازر، إلى جانب ميليشيات موالية.
من الجبهة إلى المحاكم: رواية مقلوبة حول دور العلويين في السلطة
لطالما ارتبط اسم الطائفة العلوية في الخيال السياسي السوري والخارجي بالنظام السوري، وبالسلطة الحاكمة، ما منحها -عن قصد أو عن جهل- صورة الكتلة الصلبة غير القابلة للانشقاق، لكن الباحثة في القانون الدستوري آن شارلين بيزينا ترى أن هذه الدعوى "تُسقط هذه الأسطورة"، وتؤكد وجود شرخ عميق داخل الطائفة نفسها، التي أصبحت في بعض مناطقها ميدانًا لمعارك تُدار باسم النظام ضد أبنائه.
وتقول بيزينا: "إذا صحت الاتهامات، فإننا أمام جريمة لا تشبه المجازر الطائفية التقليدية، بل أشبه بعملية تصفية حسابات سياسية عبر أداة طائفية، إنها إبادة من الداخل، لا من العدو".
وأشارت إلى أن هذا الانقسام قد يعيد تشكيل التحالفات داخل بنية الدولة السورية، كما أنه يحرّك ملفًا حساسًا في القانون الدولي، وهو إمكانية مصادرة ممتلكات الدولة السورية في فرنسا، إذا تم إثبات أن هذه الجرائم ارتُكبت بتوجيه من السلطة الحاكمة.
مجازر الساحل: روايات الدم على وقع صمت الدولة
تتقاطع الشكوى القضائية الفرنسية مع ما كشفه تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان ووسائل إعلام دولية عن الانتهاكات التي وقعت في الساحل السوري، إذ نُفّذت إعدامات ميدانية طالت مدنيين علويين ومسيحيين وسُنّة لجؤوا لحماية بعضهم، كما رُصدت عمليات حرق جماعي، واستخدام شعارات طائفية لتبرير القتل.
وفق تقديرات موثوقة، أسفرت هذه المجازر عن مقتل ما لا يقل عن 2500 مدني علوي، واختفاء أكثر من 20 ألف شخص، فيما عُثر حتى الآن 30 مقبرة جماعية في المناطق الجبلية، كما نزح أكثر من30 ألفًا إلى مناطق وعرة أو إلى لبنان، بينما لجأ الآلاف إلى القاعدة الروسية في حميميم، في مشهد يعكس انهيار الحماية الأمنية الرسمية.
الفتوى الغائبة والدين المحايد: من ينقذ النسيج السوري؟
في خضم هذا الانهيار، ارتفعت أصوات من داخل سوريا تطالب دار الإفتاء والمراجع الدينية بإصدار فتوى تحرّم قتل السوريين، وتدين الخطاب التحريضي الطائفي، وهي خطوة رمزية لكنها كانت ستشكل تماسكًا معنويًا في وجه التشظي المجتمعي.
إلا أن هذه الدعوات، التي لاقت دعمًا شعبيًا على منصات التواصل الاجتماعي، لم تُترجم إلى خطوات رسمية واضحة، ما زاد من شعور المجتمعات المحلية بالتخلي عنها.
العدالة كسلاح سياسي؟ أم محاولة لإنقاذ ما تبقى من الضمير الدولي؟
يثير توقيت الدعوى تساؤلات كثيرة: هل جاءت بدافع إنساني حقيقي؟ أم إن الغرب بدأ يرى في النظام السوري الجديد خطرًا مختلفًا، فسعى إلى مواجهته قانونيًا بعد أن فشل عسكريًا وسياسيًا؟ وهل يمكن أن يُسجَّل هذا الملف كأداة للضغط لا للمحاسبة؟
بغض النظر عن النوايا، فإن ما يحدث في فرنسا اليوم يحمل تبعات تتجاوز القاعة القضائية، فالمحاكمة التي تستهدف رأس النظام الانتقالي، قد تُعيد تشكيل نظرة المجتمع الدولي تجاه سوريا ما بعد الحرب، وتدفع الأطراف المتورطة في الصراع إلى مراجعة تموضعها، وخاصة إذا ما قررت دول أخرى السير على خطى باريس وتوسيع الولاية القضائية العالمية على الانتهاكات الطائفية في سوريا.
في بلد مثل سوريا، حيث تعايشت الجرائم مع الصمت، والانتهاكات مع النسيان، تبدو هذه الدعوى كصرخة متأخرة لكنها ضرورية، فهي تعيد للضحايا بعضًا من صوتهم المسروق، وتضع الرواية الرسمية في موقع المتّهم، لا الراوي، كما تُذكّر المجتمع الدولي أن العدالة، حتى لو تأخرت، لا تزال قادرة على إحداث صدع في جدار الإفلات من العقاب.
والسؤال الكبير الآن: هل تكون باريس بداية العد العكسي لشرعية النظام السوري الجديد؟ أم مجرد سطر قانوني في سجل طويل من الأمل المؤجل؟