الوقت - منذ ما يربو على ثمانٍ وأربعين ساعة، يواصل التحالف الأمريكي البريطاني في عدوان سافر قصفه المروع على أرض اليمن، قصفٌ أزهق حتى ساعة كتابة هذه السطور أرواح ما يتجاوز الستين شهيداً، وكان عدد كبير من الضحايا والشهداء من النساء والأطفال.
في هذا القصف الهمجي على اليمن الذي انطلق بإشارة من "دونالد ترامب"، رئيس الولايات المتحدة، تتردد أسماء فلذات الأكباد من أطفال اليمن بكثرة مفجعة، ومن عجائب المفارقات أنه في صباح اليوم ذاته الذي ارتقى فيه أطفال اليمن شهداء جراء القصف بأمر من ترامب، نشر الرئيس الأمريكي صورةً تجمعه بطفل أمريكي في باحة البيت الأبيض.
لعل ترامب أراد بنشر هذه الصورة أن يتزين بمحبة الأطفال ورعايتهم، غير أن دماء أطفال اليمن التي سالت بأوامره قد فضحت زيف ادعاءاته، وأثبتت مرةً أخرى أن شعارات الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق الطفل، ليست سوى شعار فارغ، لا أكثر!!
في غضون ذلك، خلّف القصف الذي أمطرت به الطائرات الأمريكية سماء اليمن في الأيام القليلة المنصرمة، دماراً هائلاً وخراباً عميماً، والسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه بإلحاح: أتستطيع هذه الضغوط العسكرية والهجمات الأمريكية أن تُخضع إرادة اليمنيين الصلبة، وتجبرهم على رفع راية الاستسلام؟
أمريكا… المحامي المتبجح عن الكيان الصهيوني
تزعم الولايات المتحدة أنها تشن غاراتها الشرسة ضد القوات اليمنية، بهدف إعادة الأمن إلى مسارات الملاحة والتجارة في البحر الأحمر، ذلك المسار الذي استهدفت فيه القوات اليمنية مراراً وتكراراً السفن وناقلات النفط المتجهة صوب الكيان الصهيوني، منذ اندلاع نيران العدوان الإسرائيلي على غزة الصامدة.
في جوهر الأمر، تستهدف القوات اليمنية السفن وناقلات النفط التي تخدم مصالح الكيان الصهيوني، لأنه وفقاً لما صرحت به الحكومة اليمنية، فإن هذه الهجمات ضد السفن المتجهة إلى أرض فلسطين المحتلة، تأتي رداً على العدوان الإسرائيلي الغاشم ضد الشعب الفلسطيني المظلوم، وبعبارة أخرى، برزت الولايات المتحدة بقصفها لليمن، في ثوب المدافع المستميت عن الكيان الصهيوني في إبادته الجماعية البشعة ضد أهل غزة، وهي الآن من يردّ علی هجمات اليمن ضد المصالح الإسرائيلية في مياه البحر الأحمر.
والحقيقة الساطعة أن هجمات القوات اليمنية في البحر الأحمر ضد السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني، قد نجحت في إحكام طوق الخناق حول عنق هذا الكيان وإرهاقه بشدة، وتتجلى آثار هجمات اليمن ضد المصالح الإسرائيلية في المظاهر الآتية:
تصاعد أسعار السلع واستشراء التضخم في الكيان الصهيوني: أفضت التهديدات اليمنية إلى ارتفاع صاروخي في أسعار المنتجات، ولا سيما الضروريات الغذائية الأساسية في الكيان المحتل، وذلك بسبب شحّ السلع في الأسواق نتيجة تفاقم تكاليف الشحن البحري، وتضخم أسعار تأمين المخاطر، والبدائل للنقل البحري باهظة التكلفة إلى حد لا يطاق، ويعجز الاقتصاد الإسرائيلي المتهالك عن احتمالها على المدى الطويل.
في الحقيقة، ألقت عمليات القوات المسلحة اليمنية ضد السفن الإسرائيلية في البحر الأحمر، بأثقالها الباهظة على كاهل اقتصاد الكيان الصهيوني، الذي يتنفس من منفذه الحيوي الوحيد في إيلات (أم الرشراش)، ذلك الشريان النابض لحياة هذا الكيان وأعظم موانئه لاستقبال الواردات.
ارتفاع تكاليف النقل إلى الكيان الصهيوني بنسبة تتراوح بين أربعين وخمسين بالمئة: استناداً إلى تقرير صادر عن مصادر تابعة لشركة "يو بي إس" الإسرائيلية، شهدت أسعار النقل البحري من آسيا إلى الأراضي المحتلة، زيادةً مهولةً تتراوح بين أربعين وخمسين بالمئة، وقد أعلنت غالبية شركات النقل أنها باتت تفرغ حمولاتها في الموانئ الأوروبية، ثم تنقلها بسفن صغيرة إلى فلسطين المحتلة، ما يضاعف التكاليف ويرهق الخزينة الصهيونية.
انهيار أهم ميناء إسرائيلي وإشهار إفلاسه: في الصيف المنصرم، أعلن ميناء إيلات الجنوبي في المناطق المحتلة من فلسطين، إفلاسه التام بسبب تدهور نشاطه بنسبة خمسة وثمانين بالمئة، نتيجة ضربات القوات اليمنية الموجعة للسفن في البحر الأحمر، وعلى الرغم من أن ميناء إيلات يتضاءل حجماً أمام موانئ البحر المتوسط في أشدود وحيفا، إلا أن هجمات القوات اليمنية، قد أحدثت زلزالاً عنيفاً في بنية التجارة الإسرائيلية. هذا الميناء، الذي كان يضطلع بدور محوري في شحن البضائع السائبة واستيراد المركبات، يرزح الآن تحت وطأة أزمة خانقة بسبب الانحدار الحاد في الأنشطة والإيرادات.
أتلقي اليمن سلاحها وتكفّ عن نصرة فلسطين؟
رغم الغارات الشرسة التي شنتها الولايات المتحدة على أرض اليمن، لا تلوح في الأفق أي بوادر تشي بأن اليمنيين سيتخلون عن مهاجمة مصالح الكيان الصهيوني:
سنردّ الصاع صاعين: خلافاً لحسابات الأمريكيين وأوهامهم، أعلنت اليمن عقب القصف الأخير أنها ستوجّه سهامها نحو أهداف ومصالح أمريكية في المنطقة، في واقع الأمر، لم تُفلح الهجمات الأمريكية في ثني اليمن عن مواصلة ضرباتها ضد مصالح الكيان الصهيوني فحسب، بل إن اليمنيين قد عقدوا العزم على استهداف المصالح الأمريكية أيضاً، وفي يوم الاثنين، بالتزامن مع موجة جديدة من الهجمات الأمريكية، كشف اليمن النقاب عن قيامه بتوجيه ضربتين موجعتين لحاملة الطائرات الأمريكية "يو إس إس هاري ترومان" التابعة للبحرية الأمريكية خلال الأربع والعشرين ساعة المنصرمة، كما أطلق اليمنيون، رداً على الهجمات الأمريكية الجديدة، تحذيراً صارماً بأنهم سيصعّدون هجماتهم ويضاعفون وتيرتها.
خبرة راسخة في مجابهة القنابل الأمريكية: من زاوية أخرى، ليست هذه المرة الأولى التي تنهال فيها القنابل الأمريكية على رؤوس اليمنيين، فقد ذاق اليمنيون الأباة بعد عام 2015 مرارة القصف بالقنابل الأمريكية مراراً وتكراراً إبان الحرب التي أضرمتها السعودية، بيد أن تلك الهجمات التي استمرت حتى عام 2022، لم تفلح قط في إخضاع القوات اليمنية أو كسر شوكتها، وقد أماطت منظمة العفو الدولية اللثام في السادس والعشرين من سبتمبر 2019 عن تقرير مفصل، كشفت فيه عن استخدام قنابل أمريكية الصنع في هجمات دموية استهدفت المدنيين اليمنيين العزل.
منذ مارس 2015 وحتى يومنا هذا، أجرى باحثو منظمة العفو الدولية تحقيقات دقيقة في عشرات الهجمات الجوية التي شنتها قوات التحالف، واكتشفوا مراراً وتكراراً شظايا وبقايا ذخائر أمريكية الصنع، وعلى هذا الأساس، فإن القصف الأخير لليمن من قبل الولايات المتحدة ليس بالأمر المستجد أو غير المسبوق، وكما أخفقت القنابل الأمريكية في حرب 2015-2022 في تركيع القوات اليمنية، فمن المستبعد كل الاستبعاد أن يُحدث القصف الأمريكي الراهن أدنى تأثير في عزيمة قادة وشعب اليمن، وإصرارهم على مواصلة دعم القضية الفلسطينية ونصرة أهلها المظلومين.