الوقت- منذ وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ينتظر كثيرون التحوّل الأمريكي في الملفات الإقليمية والدولية عبر انقلاب ترامب على سياسة سلفه أوباما. وبالفعل، سريعاً ما لاحت في الأفق معالم السياسة الأمريكية الجديدة التي اتسمت بجديّة وتهور أكبر من السابق، الأمر الذي دفع بالبعض للوقوع في فخّ التدخّل العسكري الأمريكي، فهل حقاً أمريكا ستتدخّل عسكريّاً في دول المنطقة؟ بل حتى في كوريا الشماليّة؟
وما زاد في توجّه الكثير من الزعماء المطالبين بالتدخّل الأمريكي، وتحديداً اولئك الذين باركوا سريعاً للرئيس ترامب بالضربة العسكرية الأمريكية على إدلب، هو التوجّه الاقتصادي الأمريكي الجديد، معتقدين أن ترامب التاجر يُمكن استدراجه للتدخّل في سوريا والعراق واليمن وحتّى كوريا الشماليّة عبر البوابة الاقتصاديّة، غافلين عن أن الحرب بالوكالة وعدم التدخّل العسكري المباشر تعدّ أحد أعمدة السياسة الخارجية الأمريكية في الوقت الراهن.
نحترم الرأي المخالف ونقدّره، إلا أننا سنأتي بأدلتنا على هذه الرؤية التي أثبتت صحّتها، حتى في الضربة الأمريكية بعد مجزرة خان شيخون، والتي لم تختلف كثيراً عن الضربة المماثلة للبنتاغون الأمريكي في دير الزور إبان حقبة الرئيس السابق بارك أوباما والتي أسفرت حينها عن أكثر من 100 شهيد وجريح من ضباط وجنود الجيش السوري، بخلاف الضربة الحاليّة التي اقتصرت على الماديات وبضع الشهداء.
تدخّل غير مباشر
إن التدخّل الذي تحدّثنا عنه أعلاه هو التدخّل العسكري المباشر، وليس التدخّل العسكري غير المباشر، كما تفعل واشنطن حاليّاً في بعض الدول، وهنا لا بدّ من تخصيص فقرة حول التدخّل الأمريكي في سوريا والعراق واليمن وكوريا الشماليّة:
سوريا: إن ضربة الشعيرات وما تلاها أثبتت عدم وجود نيّة أمريكية على التدخّل العسكري، رغم كافّة التهويل الغربي والعويل العربي والإقليمي على ذلك. تعي واشنطن جيّداً أن تدخّلها في سوريا سيكلّفها الكثير بسبب حلفاء الأخيرة، وفي مقدّمتهم روسيا اللاعب الدولي الأبرز، وإيران اللاعب الإقليمي الأبرز، خاصّة أن العديد من الصحف الأمريكية حذّرت ترامب من مغبّة المواجهة، لأن إيران قادرة على استهداف القوات الأمريكية في العراق بطريقة غير مباشرة، وفق الصحف الأمريكية. إذاً ينحصر التدخّل الأمريكي بدعم الأكراد وإدارة بعض الجماعات المسلّحة، وقد لا يخلو الأمر من بعض الضربات التكتيكية.
العراق: في العراق أيضاً، تسعى واشنطن للظهور بمظهر المحارب لداعش دفاعاً عن الشعب العراقي، وذلك بغية الحصول على ضمانات ببقاء قواعد عسكرية في البلاد في مرحلة ما بعد داعش ( للمراجعة أكثر: "جيمس جيفري" يلخّص الاستراتيجية الأمريكية في العراق: داعش أو الاحتلال!).
التدخّل العسكري الأمريكي ضدّ أي طرف في العراق، يعني القضاء على مستقبل واشنطن في هذا البلد، وهو بخلاف ما يريده الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وقد أعلنه صراحة خلال زيارة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى واشنطن الشهر الماضي.
اليمن: التدخّل الأمريكي في اليمن هو بصورة غير مباشرة، عبر الصفقات العسكرية التي تدرّ على الخزينة الأمريكية مئات المليارات من الدولارات من ناحية، والدعم الاستشاري في المناطق التي ترى فيها واشنطن مصلحة ذاتيّة من ناحية أخرى، وذلك في إطار المواجهة مع إيران. تدرك واشنطن جيّداً أن الخطر الأساسي في اليمن يأتي من التكفيريين وليس قوّات الجيش واللجان الشعبية، ولكن تبقى أمريكا غير قادرة على تغيير قواعد اللعبة في اليمن، إلا بقوّات عسكريّة مقاتلة على الأرض، وليس استشارية، وهذا ما لن يحصل.
كوريا الشماليّة: أثبتت التجربة الأخيرة أن أمريكا لا تنوي الدخول في مواجهة مباشرة مع كوريا، تماماً كما أثبتت تجربة الثلاثة أشهر الماضية أن تهديدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستخدام القوة العسكرية جوفاء. إن مواصلة كوريا التحدّي لواشنطن وتهديد زعيمها كيم جونغ اون بالرد على أي هجوم نووي أمريكي على بلاده بالمثل، فضلاً عن وجود الصين حال دون التدخّل الأمريكي.
يبدو واضحاً أن القوّة هي التي تحول دون التدخّل الأمريكي المباشر، إضافةً إلى استخدام الأدوات البديلة أو الوكيلة من المناطق المتاحة، كالأكراد في سوريا والعراق، ولعل مواجهة إيران إقليمياً وروسيا دوليّاً هي أهم عنوان أمريكي حالي، ولكن المواجهة بصورة غير مباشرة، عسكريا واقتصاديّاً. فأمريكا تبحث عن مصالحها، وهي ليست معنية بأي دولة في المنطقة، إلاّ أنّها تريد تضييق الخناق على إيران التي تنظر إليها إسرائيل على إنها العدو الأول.
قد يسأل البعض هل من الممكن أن يحصل تحوّل نوعي في تصرّف إدراة ترامب. ربّما، لا يمكن الجزم بالإجابة لأن إدارته هي "إدارة جنرالات"، كما اصطلحت عليها بعض الصحف الأمريكية، خاصّة أن زيارة وزير الدفاع الأمريكي الشرق أوسطيّة تأتي بهدف الاستكشاف، من أجل بناء استراتيجية أكثر وضوحاً تجاه منطقة الشرق الأوسط. ولكن تبقى الكلمة الفصل للرئيس التاجر الذي يهوى اللعب في البورصة الدولية بأموال غيره، طالما أن ربحها له، وخسارتها لأصحابها. وهذا الأمر ينطبق على بورصة الجنود والعسكريين الأمريكيين.