الوقت - بعد أن شهدت العلاقات التركيّة الأمريكية تذبذباً غير مسبوق إثر الانقلاب الفاشل الذي وجّهت فيه أنقرة أصابع الاتهام نحو واشنطن، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه اليوم بعد صفعة أمريكية ثنائية لتركيا ولكن عبر البوابة الكردية هذه المرّة.
وقد دفع تذبذب العلاقات سابقاً أنقرة للتوجّه نحو روسيا مجدّداً بعد أن كانت العلاقات مقطوعة بين البلدين بسبب حادثة اسقاط طائرة الـ"سوخوي" في 24 نوفمبر 2015، ومع دعم أوباما للأكراد زادت نقمة تركيا على واشنطن، الأمر الذي دفع بالأولى للتوجّه أكثر فأكثر نحو حلفاء سوريا، ايران وروسيا.
لاحقاً، ومع وصول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سعى أردوغان مجدّداً للإمساك بالعصا من الوسط، لينسحب تدريجياً باتجاه واشنطن معوّلاً على موقف أمريكي جديد يسمح له بكسب امتيازات أكبر من تلك الروسيّة فيما يخص الأزمتين السوريّة والعراقيّة.
لكن حساب الحقل لم يكن كحساب البيدر، فسياسة ترامب في دعم الأكراد، الهاجس الأكبر بالنسبة لأردوغان، تعدّت خطوط أوباما حيث برزت في الأيّام الأخيرة جملة من التطورات التي قد تدفع بأنقرة مجدداً للتحول نحو روسيا.
ومن جملة هذه التطوّرات إرسال الرئيس ترامب 500 جندي أمريكي إلى الشمال السوري، إضافةً إلى دفعتين من المساعدات العسكريّة لقوات سوريا الديمقراطيّة من بينها مدرّعات عسكرية، فضلاً عن الزيارة الأخيرة التي أجراها السيناتور الأمريكي الجمهوري، جون ماكين، إلى الشمال السوري ملتقياً بقوات بلاده العاملة في المنطقة وقادة منظمة "بي كا كا/ ب ي د" التي تصفها أنقرة بالإرهابيّة، وذلك في إطار جولته الإقليمية التي شملت تركيا والسعودية.
لم تتوقّف الصفعات الأمريكية لتركيا عند هذا الحد، بل وبالتزامن مع زيارة قائد القوات الأمريكية في الشرق الأوسط جوزيف فوايل إلى مناطق تحت سيطرة قوات "سوريا الديمقراطية" والتباحث خلال تلك اللقاءات حول مسائل عسكرية مشتركة، أعلنت العديد من الفصائل المسلّحة رفضها لتلقّي الدعم الأمريكي اللوجستي المشروط بتوحدها في جسم واحد وقيادة موحدة، مرجّحة الانضواء في غرفة عمليات "درع الفرات" التي يدعمها الجيش التركي.
لا نعتقد برضا أنقرة في الوقوف مكتوفة الأيدي من معركة الرقّة وفي حال تعذّر حضور الدبابات التركية على أعتاب مدينة الرقّة، لا يستبعد خبراء أن تعمد فصائل "درع الفرات" للتوغّل من مدينة تل أبيض على الحدود السورية – التركية، ما يعني المواجهة مع قوات سوريا الديموقراطية المدعومة أمريكياً، الأمر الذي سيوتّر العلاقات بين البلدين.
وما يزيد في طينة الأتراك بلّةً، تحرير الجيش السوري لعشرات القرى والبلدات ليصل مناطق سيطرته بمناطق سيطرة "قسد" في ريف منبج، وبالتالي السيطرة على المنطقة الممتدة بين الباب ومنبج، الأمر الذي يضع عقبات جديدة أمام طموحات أردوغان في الرقّة، ويفرض عليه التنسيق أو الصدام مع دمشق أو "قسد"، ولا نستبعد ترجيحه للخيار الأوّل في حال طلبت منه واشنطن فاتورة عالية مقابل الوساطة مع "قسد".
يبدو واضحاً الخسارة التركيّة من الاعتماد على واشنطن، لاسيّما أن غياب أنقرة وحضور قوات سوريا الديمقراطيّة في معركة الرقّة يعني ما يعنيه من مكاسب للأكراد، وفي مقدّمتها إقامة دولة كرديّة انفصالية في شمال سوريا (قد يعود الأكراد بعد معركة الرقّة بخفيّ حنين في حال برز أي تحوّل جديد في الإدارة الأمريكية الجديدة التي لا تزال مضطربة حتّى الساعة، وبالتالي لن تكون أمريكا ملزمة بتحقيق وعود للأكراد خاصّة أن التاريخ أثبت أن واشنطن تترك حلفائها في منتصف الطريق، تماماً كما حصل مع أردوغان الذي عوّل كثيراً على واشنطن منذ بداية الازمة السوريّة عام 2011)، وهو ما سيرفضه أردوغان حتّى لو تطلّب الأمر الدخول في حرب مكشوفة مع الأكراد، بصرف النظر عن موقف دمشق من هكذا خطوة كرديّة.
إذاً، وبصرف النظر عن أسباب وحيثيات الموقف التركي من الأكراد، تشير التطوّرات الجديدة إلى خسارة تركيّة مجدّدة بسبب اعتمادها على واشنطن، فالتحرّكات التركيّة ردّاً على نظيرتها الأمريكية بدأت سريعاً حيث أعلنت أنقرة زيارة مرتقبة للرئيس التركي رجب طيّب أردوغان إلى روسيا في مارس المقبل، للاجتماع مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، "من أجل تحسين العلاقات بين البلدين بدرجة أكبر". التحرّك التركي الجديد، والذي يكشف براغماتيّة أردوغان، يشكّل رسالة واضحة إلى واشنطن التي "غدرت بأنقرة، وبالتالي لا نستبعد أي تحرّك تركي مماثل نحو طهران لإعادة العلاقة إلى دفئها السابق، لاسيّما بعد التهجّم التركي على إيران في مؤتمر ميوينخ الأخير.