الوقت- تعودت أمريكا أن تكون سيدة الموقف دوماً. لكن الزمن قد تغير اليوم، وأصبحت فيه أمريكا تعاني من أزمةٍ على صعيد إثبات الوجود. فاليوم تجد أمريكا نفسها أمام واقعٍ لم تصنعه، ولم تساهم في صناعته. فهي التي راهنت على نجاح سياساتها الإستراتيجية في المنطقة، لم تفكر مطلقاً بأنه وفي يومٍ من الأيام سيخرج إليها لاعبٌ كإيران، يتقن نسج السياسات. بل لم تفكر يوماً بأنه قد يأتي زمنٌ ستضطر فيه للوقوف أمام واقعٍ تلتزم به، بالجبر لا عن قناعة. فهي التي تعودت وعودت العالم بأن تكون عرابة السياسات الدولية. لكن الواضح اليوم أن أمريكا لم تعد كالماضي. فهي أصبحت مجبرة على التنازل في كل الأماكن، بل أصبحت مجبرةً على إرضاء الطرف الإيراني ولو بالشكليات، لأنها لم تعد تستطيع تجاهل حقيقة أنه استدرج الجميع الى مستنقعٍ هو صنعه. وليس مع أحدٍ سواه، مفتاح النجاة. وما على الجميع إلا أن ينتظر دوره، إن سمحت له إيران، لعله يضمن بعضاً من استمراريته في المستقبل. وهنا تأتي حقيقة الاستدراج الإيراني لأمريكا في معركة تكريت. والتي ستكشف الأيام المقبلة، أن تدخل أمريكا في المعركة، سيكون بداية نهاية دورها في العراق. فماذا في التفاصيل؟
انضمت أمريكا إلى معركة تكريت عن طريق قصف مواقع تنظيم داعش الإرهابي. ولعلها كانت تراهن على إعادة نفوذها المتآكل في العراق. فسير العمليات العسكرية المدعومة من إيران استشارياً، أظهر نجاح العمليات والقدرة على فرض قواعد جديدة. مما جعل التعاظم الإيراني يزداد في المنطقة، ولكن عبر العراق هذه المرة. وهنا يجب الالتفات الى التالي :
دفعت مشاركة أمريكا في معركة تكريت، إلى انسحاب قواتٍ عراقية أساسية، وبالتحديد الحشد الشعبي. وذلك لعدم وجود ثقةٍ بينها وبين قوات التحالف. وهذا الأمر مقبول من الناحية العسكرية، فضعف التنسيق بين القوات على الأرض، سينعكس سلباً على مجريات المعركة. وفي الوقت الذي كانت الأمور تأخذ طابع الحسم لمصلحة القوات العراقية، جاء التدخل الأمريكي ليعيق هذا الحسم، وبالتالي فلم ترض القوات العراقية وبالتحديد قوات الحشد الشعبي بالاستمرار الى جانب الطرف الأمريكي الذي لا يمكن الوثوق به. وبالخصوص أنه سبق وأعلن رفضه المشاركة. فقوات الحشد الشعبي تميزت بقدراتها العسكرية العالية في حرب الشوارع والعصابات. مما جعل من الطبيعي الاعتماد عليها في العراق وبالتحديد في معركة تكريت. حيث تمتلك مرونةً في التحرك أكثر من القوات النظامية، الأمر الذي جعلها ركيزة أي هجومٍ للجيش العراقي .
إن توقف قوات الحشد الشعبي، وإن كان مرحلياً ولأسباب تتعلق بضمان النتائج، سيؤدي الى إحداث فراغٍ تتحمل أمريكا مسؤوليته. ولذلك فإن أمريكا أدخلت نفسها في مقامرةٍ لن تكون في مصلحتها في كافة الأحوال. فلو افترضنا أن أمريكا نجحت في إنهاء معركة تكريت، فهي ستكون قد أثبتت أن دورها جاء مكملاً ولو بالإجبار، لدور القوات العراقية وبالتحديد الحشد الشعبي. وبالتالي فتكون قد أكملت دور القوات المدعومة استشارياً من إيران. مما يعني أنها قطفت إنجاز الآخرين، وبالتحديد إنجاز اللاعب الإيراني. وهنا لن يكون النجاح لها، بل سيكون الانتصار في معركة تكريت، إعلانٌ أمريكيٌ صريح عن قوة اللاعب الإيراني. وفيما لو افترضنا من جهةٍ أخرى أن معركة تكريت فشلت في تحقيق أهدافها، فإن كامل المسؤولية سيتحملها الطرف الأمريكي الذي لم يعرف حتى كيف يتدخل .
فقد ظنت أمريكا أن توقف التقدم العسكري للقوات العراقية في معركة تكريت، يعبر عن ضعفٍ في التكتيك العسكري، والقدرة القتالية. لكن الذي تبين هو أن الطرف المدعوم استشارياً من إيران، يدرس كيفية التعامل مع واقع العبوات الناسفة والمباني المفخخة ليس أكثر. وهنا اقتنص الأمريكي الفرصة لجهله بحقائق الميدان. وقرر التدخل لفرض نفسه وإبراز أن العراق ما يزال يحتاج له، وإظهار أن الدعم الاستشاري الإيراني لم ينجح. لكن سرعان ما وجد الأمريكي نفسه منزلقاً في فخٍ إيرانيٍ جديد. فقوة الحشد الشعبي في الميدان العسكري، تفرض واقعاً معيناً لمجريات المعركة، يجد فيها المخطط العسكري الأمريكي نفسه محرجاً بل جاهلاً في التعاطي معها .
وهنا يتوقع أن تستسلم أمريكا مرةً أخرى لواقع القوة الإيرانية. لكن هذه المرة بطريقةٍ مذلة لأمريكا أكثر من أي وقتٍ مضى. فالتدخل الأمريكي الهادف لإضعاف الصورة المميزة لإيران في العراق والمنطقة، سينعكس حاجةً أمريكية لطلب النجدة من إيران. فقوات الحشد الشعبي التي تلقى دعماً استشارياً معلناً من إيران، أثبتت نجاحها في تحقيق الإنجازات. وبالتالي فإن الضعف الأمريكي في تحقيق نتائج في ساحة معركة تكريت، سيفضي الى حاجةٍ ملحةٍ لعودة دور هذه القوات الأعرف بزمام الأمور في ميدان المعركة .
لقد أثبتت إيران مرةً أخرى أنها لا تعمل فقط على صعيد إحداث انتصاراتٍ تتوافق مع مصالح الشعوب، بل تعرف كيف تضع آليات استدراج الآخرين لكشف حقيقتهم. فإيران اليوم بحنكتها السياسية، أصبحت تتحكم بلعبة الشطرنج السياسية في المنطقة. وجميع اللاعبين أحجارٌ، سيسيرون ضمن الرغبة الإيرانية. وهي الرغبة التي أثبتت أنها لو زادت نفوذاً وتعاظماً، لا تتعارض مع حق الشعوب في تقرير مصيرها. وهنا مكمن القوة الإيرانية، وهنا يأتي السؤال الأخطر: كيف ستطلب أمريكا بذاتها في المستقبل القريب، النجدة الإيرانية؟ هذا ما ستكشفه الأيام المقبلة، ليكون مثالاً حول كيفية إتقان إيران للعبة السياسية. وللأمثلة الأخرى تتمة ....