الوقت - لم يحصل أن خرجت نداءات استغاثة من داخل المجتمع الإسرائيلي على لسان مسؤولين مِفصليين في الحكم، كما يجري اليوم. فبعد نداء رئيس الکيان الإسرائيلي "رؤفين ريفلين" في مؤتمر هرتسيليا حول أن كيانه أمام مفترق طرق، جاء نداء رئيس الموساد السابق "تامير باريدو" ليتخوَّف من خطر الحرب الأهلية. وهو الأمر الذي أبرز هشاشة المجتمع الإسرائيلي، وبُعده عن التوحُّد حول مآرب الصهيونية. في حين باتت تل أبيب أمام خطرٍ داخلي يُهدِّد وجودها، بعد أن كانت تسعى لإزالة الأخطار الخارجية المتعلقة بذلك. فكيف رأى المسؤولون الصهاينة التهديدات الجدية للكيان؟ وما هي جذور هذه التهديدات؟ وكيف يمكن تشخيص المخاطر؟
تقرير يُبرز التهديدات بحسب مسؤولين إسرائيليين
خرجت الصحف الإسرائيلية لطرح مسألة التخوف من الإنقسام الداخلي في المجتمع الإسرائيلي، محاولةً بذلك تأكيد حقيقته. مُشيرة الى أن حدوث حربٍ أهلية داخلية أمرٌ مستبعد لكن أحداً لا يستطيع منع خطر وقوعها. وهو ما أكده الكاتب "حاييم ميسغاف" في صحيفة معاريف، والذي تحدَّث عن الإنقسامات التي تُهدد مستقبل اليهود، والتي تَخوَّف منها مؤسِّسوا الكيان بحسب تعبيره، الأمر الذي دفعهم لتفعيل فكرة الإستيطان. فيما يبدو أن الفجوات التي باتت تتسع بين مكونات المجتمع الإسرائيلي تُقلق صناع القرار الحريصين على مستقبل الشعب اليهودي.
فمُنذ فترة ليست ببعيدة وفي مؤتمر هرتسيليا كان كلام رئيس الکيان الإسرائيلي "رؤوفين ريفلين" واضحاً، على الرغم من أنه لم يستخدم مصطلح الحرب الأهلية بل أشار الى أن كيانه أمام مُفترق طرق. في حين اعتبر أن أسباب هذه المشكلة تكمن في وجود انقسامٍ حول خيار وتطلعات فئات المجتمع الإسرائيلي حول هوية الكيان، في وقت باتت تتحرك فيه هذه الفئات ضمن ما يُسمى "الأربع قبائل" وهي الشريحة الدينية الصهيونية، الدينية الحريدية، العلمانية وعرب الكيان أو فلسطينيي 48.
من جهته ومنذ أيام أشار رئيس الموساد الإسرائيلي "تامير باريدو" الى أن حالة الإستقطاب الموجودة في المجتمع الإسرائيلي والتي تتزامن مع حالةٍ من الإنفصال، قد تؤدي في أي وقت إلى اندلاع حرب أهلية بين الإسرائيليين. وأكد باريدو أن التهديد الداخلي يُشكل خطورة أكبر على الكيان من التهديدات الخارجية، ضارباً الدول العربية كمثالٍ للدول التي دُمِّرت بسبب التناحر الداخلي. معتبراً أن ما يجري اليوم في تل أبيب حصل سابقاً ولكن بوتيرة أقل، في عهد رئيس الحكومة الإسرائيلية أرييل شارون، والذي أقدم على خطوة اقتلاع اليهود من مستوطناتهم في قطاع غزة وضرب التجمع الإستيطاني المُسمى "غوش قطيف". مؤكداً أن ما يحصل اليوم يتماشى مع ما يجري في العالم من حالة فقدان الثقة بين المواطنين والحكومات. فيما كان أخطر ما أشار له رئيس الموساد، هو مؤشر وجود أصوات جديدة ظهرت على الساحة الداخلية الإسرائيلية، لا تؤمن بمعتقدات الحركة الصهيونية، بل ترى فيها عقبة أمام تحقيق السلام العالمي، وتتلقى دعماً من جهات أوروبية. موضحاً أن إمكانية انسحاب الجيش الإسرائيلي من الضفة الغربية أو هضبة الجولان أو غور الأردن قد يتسبب بحدوث حرب أهلية بين اليهود أنفسهم.
قصة الإنقسام وجذورها
إن عدداً من الحقائق والتي يجهلها الكثيرون، فيما يُدركها متابعوا الشأن الإسرائيلي يُمكن أن توضح الأسباب الحقيقية لما آلت إليه الأمور اليوم. فيما يمكن سرد هذه الحقائق بالتالي:
أولاً: تعاني فئات المجتمع الإسرائيلي من انقسام داخلي يعود لما قبل نشأة الكيان الإسرائيلي. وهو الإختلاف المتعلق بأصل فكرة الكيان، والتي تصارع عليها حينها العلمانيون والمتدينون اليهود "الحريدية". حيث يرفض المؤمنون بالشريعة اليهودية والمعروفون بالـ "حريديم" فكرة إقامة الدولة فيما يُصر الطرف العلماني على ذلك. لكن هذا الإنقسام لم يظهر بشكل كبير نتيجة قدرة العلمانيين على احتواء المتدينين القلة، مما ساهم بحدوث واقع سلَّم له الجميع في ظل حاجة لما يُسمى (وطن) للعيش فيه. فيما راهن العلمانيون على تراجع المتدينين عن موقفهم وهو ما لم يحصل. كما اعتبر العلمانيون أن وجود الطبقة المتدينة من اليهود هو أمر ضروري لإستقطاب يهود العالم نحو الكيان.
ثانياً: بعيداً عن الفئتين العلمانية والمتدينة الحريدية، بقي حكم الكيان الإسرائيلي ممسوكاً من قبل الأشكيناز والذين يعودون لأصول أوروبية. مما بنى واقعاً سلَّم فيه الجميع لا سيما الشريحة الشرقية، التي آمنت بأنها أدنى من يهود الأشكيناز، وعملت على التناغم معهم والتأقلم مع أسلوبهم الغربي في الحياة والسياسة. في حين بقي الصراع بينهم خفياً وبارداً بسبب عَزفِ شريحة يهود الشرق عن السعي لشرقنة الكيان.
المخاطر كما يمكن تشخيصها
أولاً: يجب القول بموضوعية إن التحذيرات التي ترد لا تعني بالضرورة وقوع الحرب الأهلية. بل هي تعني ما هو أخطر، بأن المجتمع الإسرائيلي الداخلي يذهب نحو مسار جديد لم يحصل أن اتخذه، يقوم على تناقضات داخلية وحالة من التشرذم الأيديولوجي وليس السياسي فقط. وهو ما سيُولِّد في النتيجة مواقف متطرفة ستشكل تحدياً جديداً للطبقة الحاكمة والتي لا تعتبر بعيدة عما يجري.
ثانياً: إن تحذير رئيس الموساد المبني على وقائع ودلائل، نقل الصراع الى المؤسسة الأمنية والعسكرية والتي كانت دائماً سبب هيبة الكيان وقدرته على الإستمرار. في حين يُعتبر ما يجري اليوم استمراراً لمسار الإقصاء الذي يجري في الداخل الإسرائيلي على الصعيدين السياسي والعسكري، والذي بدأ بوصول أفيغدور ليبرمان.
ثالثاً: بات الكيان الإسرائيلي أمام تحديات، تتجاوز في آثارها الداخل المحلي، خصوصاً بعد أن حذَّر رئيس الموساد السابق من أن جهات خارجية أوروبية تدعم شرائح داخلية وهو ما يجب أخذه بعين الإعتبار في ظل التحولات الأيديولوجية التي تتماشى مع رفع قدرة ونفوذ الأطراف اليمينية في العالم.
رابعاً: إن ما يجري يُشكِّل خطراً على ما يُسمى صورة الكيان الإسرائيلي للخارج، والتي تُشكِّل بعد الجيش نقطة قوة القيادة الإسرائيلية أمام العالم. في حين بات هذا الموضوع مُهدِّداً للأمن القومي الإسرائيلي بشكل واضح.
لا شك أن ما يجري أحدث صدمة لدى البعض البعيدين عن حقائق تأسيس الكيان الإسرائيلي وواقعها الهش. فالإختلافات الجذرية التي جمعت من لا يملكون موطناً في دولةٍ وهمية، عادت لتطفو على سطح النقاش السياسي في تل أبيب. وهو ما أضحى أزمةً جديدة تعاني منها الصهيونية. أزمة تُختصر بأن الكيان الإسرائيلي بات في خطر. خطرٌ يتعلق بالشتات الداخلي بين فئات المجتمع الإسرائيلي!