ارتفع مصطفى بدر الدين شهيداً. وطوى صفحةً من العز والجهاد، عاشها في ظل حزب الله. فالجميع يعرف من هو الشهيد. فالعدو كان يستحوذ الفرصة لإغتياله. فيما كانت الأيادي الغربية والعربية مشتركةً، تحاول النيل من الرجل معنوياً، بعد أن تعذَّ الوصول اليه. أما اليوم، فقد رحل الشهيد كما أراد. مُخلفاً وراءه حياةً يفخر التاريخ أن يذكرها، وحكايةً مليئة بالجهاد والتضحيات.
تبدأ قصة القائد الشهيد مصطفى بدر الدين، منذ العام 1982. حيث بدأت معه حكاية الجهاد. ومع بداية قصته الجهادية، أُسر الرجل في ثمانينيات القرن الماضي في الكويت. ليخرج بعدها ويكمل مسيرته، في ظل جراحٍ لازمته طوال حياته، حتى ختم المسيرة الجهادية بالشهادة. ولعل أبرز ما نُقل عنه مؤخراً، قوله: "واجبي العمل على مواجهة كل مشاريع هؤلاء، ولن أغادر عملي في لبنان أو سوريا أو أي ساحة أخرى، إلا شهيداً محمولاً أو حاملاً لراية النصر". صدق الشهيد، وطوى صفحةً من العز والفخر والإباء.
بعد استشهاد القائد الحاج عماد مغنية، شُغل الكثيرون بالسؤال عن خليفته. فكان من ضمن الأسماء البارزة التي تم تداولها، مصطفى بدر الدين، "السيد ذو الفقار". ولأن الماكينة الإعلامية للغرب والكيان الإسرائيلي، الى جانب جهاتٍ إقليمية عربية ومحلية لبنانية، كانت جاهزة لتقديم التقارير الهادفة الى تشويه السمعة، ظلت منذ ذلك الحين تعمل ضمن مُخططٍ أمريكي واضح للترويج للقائد في حزب الله على أنه رجلٌ إرهابيٌ من الطراز الأول. فيما بقيت تل أبيب المصدر الأول للمعلومات حول الرجل، مُحددةً السياق الذي يجب فيه المضي قدماً.
ولعل أبرز ما يمكن ذكره، أنهم خرجوا عليه بتهمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وانطلقت أكبر ماكينة لتحويله الى إرهابي مُطارد بصورة رسمية في كل أنحاء العالم. وحاولوا النيل منه من خلال اتهاماتٍ مُفبركة، وشهود زور معروفين. قدم هؤلاء المأجورون إفادات وروايات تصبّ في خدمة المشروع الأمريكي الصهيوني، والهادف ليس فقط الى اتهامه بقتل الحريري، بل في وضعه في خانة الخارجين عن القانون و ذوي السجل غير الأخلاقي. واستمر المشروع الذي لم يستطع النيل من عزيمة القائد الفذ، وهو ما عملت عليه الإستخبارات الأميركية والإسرائيلية، وساعدها في تنفيذ ذلك مع الأسف، فريق لبناني، تختلف أدواته بين رسميٍ وسياسي.
بعضٌ من الحقائق
لا شك أن المسألة تحتاج للوقوف عندها، حيث أن ثمة أشياء يجدر الإشارة لها، تتعلق بآلية عمل قيادات المقاومة. وهنا نقول التالي:
- تعمل القيادات البارزة في المقاومة، ومنها الشهيدين عماد مغنية ومصطفى بدر الدين، من دون إسم أو وجهٍ أو عنوان. بل يعرفهم الجميع عندما يصيروا شهداء. وهو ما ساهم في محاولة البعض تحويل هذه الميزة، الى نقطة ضعفٍ يتم من خلالها تشويه صورة هذه القيادات.
- وفيما يخص الكيان الإسرائيلي، فهو يعترف بملاحقتهم، محاولاً الإدعاء أنهم إرهابيون، محاولاً كسر الصورة الجميلة والبطولية لهذا الصنف من المقاومين والتي زُرعت في الوعي العام عند العرب والمسلمين وعند أحرار العالم.
فيما يخص الشهيد بدر الدين
أما فيما يخص الشهيد بدر الدين، فتاريخه الحافل بالبطولات، قد يكون مُبرراً لأن يلاحقه العدو لزمن. فماذا كانت تعرف عنه تل أبيب؟
- كانت تعرف تل أبيب من هو مصطفى بدر الدين منذ ما يزيد عن الربع قرن. فقد شاهده ضباطها وجنودها وهو يطاردهم في جنوب لبنان في تسعينيات القرن الماضي، في كافة ساحات القتال. كما شعرت تل أبيب ببصماته في عددٍ من الأعمال الأمنية جعلتها تشعر بجيل جديد من المحترفين الأمنيين.
- عرفته أيضاً كرجل الظل في مفاوضات عمليات الأسر. فقد كان العقل المحرك لكل المفاوضات، وكان يعرف كيف يُديرها لتحقيق أعلى النتائج الممكنة، وبأقل التنازلات.
- بالإضافة الى ذلك، فقد كانت تُدرك تل أبيب أنه الرجل الذي يقف خلف أقوى جهاز لمكافحة استخباراتها الأمنية والتجسسية. وتعرف كيف نجح في توجيه أقسى الضربات إلى أقوى أجهزة الإستخبارات في المنطقة والعالم، وكيف استطاع أن يفكك عشرات شبكات التجسس في لبنان وخارج لبنان أيضاً. بل بقيت تخشى منه على اعتبار أنه من يعد العدة لثأر حزب الله منها، على جريمة اغتيال القائد الشهيد عماد مغنية.
- ومنذ اندلاع الأزمة في سوريا، فتحت معه تل أبيب صفحة جديدة في المواجهة. خصوصاً لدوره في في قيادة مجموعات المقاومة الإسلامية في سوريا، الى جانب قيادته عملاً أمنياً وعسكرياً يهدف لتوجيه ضربات مباشرة الى المجموعات التكفيرية، ويتخطى ذلك ليطال التأسيس لكيانٍ سوريٍ عسكريٍ قادرٍ على تأمين استمراريته، في ظل الحرب العالمية على سوريا، وبالتعاون مع حزب الله.
إذن، أسبابٌ كثيرة لا يسعنا الحديث عنها، لكنها بعضٌ من قصة الشهيد القائد مصطفى بدر الدين. فالعالم بأسره بات يعرف لماذا تريده تل أبيب وواشنطن. ليس فقط لأنه كان يقضّ مضاجعهم أينما ذهبوا، أو يُحصي أنفاس عملائهم المُنتشرين في بلادنا، والعالم. بل لأنه يُمثل القوة التي يُعبِّر عنها محور المقاومة. واليوم، رحل السيد ذو الفقار، تاركاً خلفه تاريخاً حافلاً بالبطولات، وحاضراً مليئاً بالإنجازات، يمكن من خلالهم المضي قدماً لإكمال المسيرة.
أما لك أيها الشهيد، كلامٌ ينبع من قلب الأمة، لروحك الطاهرة. يا من رحلت كما تحب، حيث لم تنل منك المؤامرات، ولم تستطع أن تطالك أياديهم. عشت كما أردت، ورحلت كما أردت. ودخلت في مفخرة التاريخ، قائداً تعرفه الساحات، وأسيراً لم يقهره الأسر، وجريحاً حاك من وجع الجراح خطواته نحو النصر. وختمت حكايتك بالشهادة. إنها حكاية عمرٍ من الجهاد، بدأت بالأسر ثم الجراح فالشهادة.