الوقت- تعيش تركيا أزمةً جديدة، تتصف بالغموض، في ظل تفاقم الإنقسامات الداخلية، وتراجع الثقة بين الأطراف. خصوصاً بعد أن تبيَّن بأن حزب العدالة والتنمية، يحمل الشعارات التي تخدم مصالحه، وهو ما قد يعارضه الشعب التركي. في وقتٍ أدخلت تصريحات رئيس البرلمان التركي منذ يومين، البلاد في أزمة تغيير الدستور، الذي لطالما طمح "أردوغان" لتحقيقه، لكن من خلال المناداة بجعله وفق الشريعة الإسلامية اليوم، في بلدٍ كانت العلمانية أساس استقراره، ومحاولات تغيير النظام سبباً لإحتدام الصراعات الداخلية. فماذا في الدعوة لتغيير الطابع العلماني للدولة التركية؟
أكد رئيس الوزراء التركي "أحمد داود اوغلو" أن مبدأ العلمانية سيبقى في الصيغة الجديدة للدستور التي يُعدها حزبه الإسلامي المحافظ الحاكم، وذلك بعد الجدل الحاد الذي اثاره رئيس البرلمان بإعلانه معارضته للنظام العلماني. وقال "اوغلو" في خطاب القاه في أنقرة بأن الدستور الجديد الذي يتم إعداده سيتضمن مبدأ العلمانية لضمان حرية العبادة للمواطنين ولكي تكون الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديان. مؤكداً على أن المبادئ الأساسية للدولة ليست موضوعاً للنقاش. واحتجاجاً على تصريحات رئيس البرلمان "اسماعيل كهرمان" الذي دعا الى "دستور ديني"، شهدت تركيا الثلاثاء، تظاهرات في انحاء عدة من البلاد فرقت الشرطة بعضها باستخدام العنف.
توصيفٌ و تحليل
لا شك أن تركيا تعيش أزمةً داخلية على الصعد كافة في ظل التبدلات التي تشهدها السياسة الدولية والإقليمية. ولعل الخطر الذي بدأ يبرز، يُنذر بإحتدام الصراع الداخلي والذي يعتبره البعض نتيجةً لسياسات حزب العدالة والتنمية. وهنا لا بد من ذكر التالي:
- اشتعل الصراع الجديد في تركيا، عقب التصريحات التي أطلقها منذ يومين رئيس البرلمان التركي "إسماعيل كهرمان" والتي ألمح فيها إلى أن الدستور الجديد سيكون على أساسٍ دينيٍ خالٍ من العلمانية. وهو الأمر الذي أدى لتحرك شريحة واسعة من الشعب التركي، في مظاهرات رُفعت خلالها شعارات تنادي بالعلمانية وترفض دستوراً يمتثل للشريعة.
- وهنا ومن خلال العودة للماضي، وخصوصاً خلال عام 1960 أعدم الجيش التركي رئيس الوزراء "عدنان منديريس"، والذي يُعتبر أول زعيم سياسي منتخب ديمقراطياً في تاريخ تركيا، بعد اتهامه بالمساس بالمبادئ العلمانية للدولة، خصوصاً أنه وعد بتقليص دور الحكومة في القطاع الخاص والقيام بتخفيف الإجراءات العلمانية التي تعتبر صارمة.
- ويُعتبر الجيش في تركيا، حامي النظام العلماني في البلاد. في حين يُلاحظ أن حزب العدالة والتنمية ومنذ وصوله لسدة الحكم عام 2002، كان يحاول تقليص نفوذ المؤسسة العسكرية في الدولة. في وقتٍ كانت تخرج بين الحين والآخر تلميحاتٌ حول إمكانية قيام الجيش بالتحرك، في حال المساس بالوجه العلماني للدولة التركية، وهو الأمر الذي يُعتبر سبباً للأزمة البنيوية بين الطرفين الحاكم والمؤسسة العسكرية.
- وفي العام 2005، قام "أردوغان" بالدعوة لنقل البلاد من النظام البرلماني المعمول به، الى نظامٍ رئاسي قد يُعطيه صلاحياتٍ أكبر لا سيما على الصعيد التنفيذي. فالدستور الحالي والذي تم إقراره بعد انقلاب "كنعان إيفرين" عام 1980 يعتبر منصب رئيس الجمهورية فخرياً ولا يملك صلاحيات تنفيذية مباشرة.
وهنا وبناءاً لما تقدم، يمكن استنتاج التالي:
- لا شك بأن الشأن التركي الداخلي يخص الأتراك وحدهم. فيما يمكن القول بأن التوصيف الدقيق للواقع الحالي في تركيا، يدل على وجود حالةٍ من الشرخ الداخلي بين الحزب الحاكم الذي يبدو أنه يريد التمرُّد على النظام التركي أي الدستور، وبين التوجهات التي يُعبِّر عنها الداخل التركي على الصعيد الشعبي والنُخبوي الى جانب توجهات المؤسسة العسكرية.
- وهنا فإنه وفي الوقت الذي فشلت فيه سياسة"أردوغان" الخارجية، يبدو أن سياسته الداخلية أصبحت محكومة بالفشل لا سيما بعد أن لقيت آلياته العملية على الصعيد الداخلي مصيراً واحداً وهو عدم النجاح. ففي وقتٍ أدخل "أردوغان" البلاد بمشاكل داخلية لا سيما فيما يتعلق بملف الأكراد، بالإضافة الى نقل الإرهاب الى الداخل التركي من خلال دعم داعش على الحدود، يعود اليوم لإدخال تركيا في نفقٍ من الحسابات الدستورية، والهادفة في الظاهر لتغيير الدستور تحت حجة الأسلمة، في حين يبدو جلياً بأن الهدف الحقيقي لإردوغان هو تعزيز سلطاته وتقوية نفوذه كرئيسٍ للجمهورية.
- واليوم ومع احتدام الجدل حول مكانة الدين في الدستور الجديد وإمكانية إسقاط مبادئ العلمانية منه والتي تسببت في السابق بانقلابات عسكرية وإعدامٍ لمسؤولين كبار في الدولة من قبل الجيش الذي يعتبر تاريخياً حارساً للعلمانية، يدخل الإحتقان السياسي والإجتماعي حول مسألة الدستور التركي الجديد مرحلة خطيرة وحساسة، يبدو أنها تُهدِّد أمن وإستقرار تركيا.
إذن، لا يمكن القول بأن الحزب الحاكم بعيدٌ عن تاريخ بلاده، ولا يعرف بأن طروحاته عادةً ما أدت الى مشاكل وصلت لحدِّ الإنقلابات أو الإعدامات. في وقتٍ يجب فيه انتظار ما ستؤول اليه الأمور، خصوصاً لأن مصادر مطلعة أكدت، بأن خطوات الحزب في تغيير الدستور ستكون تدريجيَّة، لجسِّ نبض الشارع وتقييم ردات الفعل. في حين يمكن القول حتى الآن بأن ردة الفعل الحالية، تُنذر بما هو أخطر. خصوصاً أنها أثبتت عدم الرضا الشعبي والسياسي عن توجهات الحزب الحاكم، في وقتٍ يبدو فيه أن الحزب ماضٍ بخياراته التغييرية. كما تجدر الإشارة الى أن تجربة الحزب الحاكم أي العدالة والتنمية، تدل على إعطاء المصالح الخاصة أولوية على المصالح القومية. وهو ما أثبتته نتائج السياسة التركية فيما يخص الأزمة السورية، والتعاطي مع ملف مكافحة الإرهاب. الى جانب السياسة التي يعتمدها "أردوغان" في قمع الحريات الإعلامية. وهي مجموعةً معاً، تدل على ضعف الشعور الأردوغاني تجاه المصالح القومية، وإعلائه للمصالح والحسابات الخاصة. فماذا ينتظر المستقبل التركي يا تُرى؟