الوقت - يشكل 23 حزيران المقبل، حدثاً مهماً لكلٍ من أوروبا وبريطانيا. فهو التاريخ الذي حدده رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، للإستفتاء على مشروع إنفصال بريطانيا عن أوروبا. لكن هذا التاريخ والذي يُفوَّض فيه الشعب لقرارٍ استراتيجي، يعتبره الكثيرون بداية نهاية مستقبل بريطانيا اقتصادياً وسياسياً. فيما يجري النقاش اليوم حول منطقية تغليب الديمقراطية (خيار الإستفتاء) على مصلحة الدولة. وبين كل ذلك، تبدو المخاطر واضحةً تلوح في الأفق. فكيف يمكن توصيف السعي البريطاني للإنفصال بالإضافة الى رأي المؤيدين لذلك؟ وما هي مخاطره؟
أسباب السعي البريطاني للإنفصال
تسعى بريطانيا لتحقيق مقترحاتها فيما يخص تعديل المعاهدات الأوروبية٬ والتي تتمثل في استثنائها من أي اتحاد أو اندماج سياسي كبير للإتحاد الأوروبي مستقبلا٬ً ومنع مواطني الإتحاد الأوروبي من الإستفادة من أي ضمانات إجتماعية في بريطانيا لمدة أربع سنوات متتالية٬ وكذلك حماية المركز المالي لبريطانيا في وقت يتوجه فيه الإتحاد الأوروبي نحو اندماج نقدي ومالي أكبر٬ وإعطاء دور أكبر للبرلمانات المحلية في عملية اتخاذ القرار الأوروبي. كما تطالب بريطانيا بإقرار الإتحاد بأن اليورو ليست العملة الوحيدة للإتحاد. وهنا وفي ظل النقاش المُحتدم حول ماهية الإنفصال ومخاطره، يقول مؤيدوه إن بريطانيا ستكون في وضع أفضل فيما يتعلق بالتجارة مع العالم في حال وجودها خارج الإتحاد الأوروبي. ويتسلحون بذلك تحت حجة أن مصادر نمو الإقتصاد العالمي الآن، تأتي من الدول الناشئة وليس من الإتحاد. كما يعتمدون على نظرية أن الإقتصاد الخامس في العالم يمكنه العيش خارج الإتحاد الأوروبي. ويعتبر المعارضون لبقاء بريطانيا في ظل المعاهدات الأوروبية٬ أنه ينبغي أن تكون أوروبا سوقاً مشتركة وليس بلداً مشتركاً٬ حيث يتم حينها الإحتفاظ بالمكاسب الإقتصادية والتجارية دون تحمل مشاكل المهاجرين الذين أثَّروا على مستوى المعيشة والنسيج الإجتماعي٬ والذين يشكلون مشكلةً مادية لا سيما على ميزانية الخدمات العامة كالتعليم والصحة والتي تبلغ قيمتها خمسة مليارات دولار سنوياً.
وهنا فلا شك أن عدداً من الأسباب البنيوية، تكمن وراء السعي البريطاني للإنفصال. فيما يقول العديد من الخبراء الأوروبيين، بأن رئيس الوزراء كاميرون، يسعى لإستغلال مسعى الإنفصال في تحريك هذه الأسباب وجعلها مكاسب لبريطانيا. وهو الأمر الذي يظهر بوضوح من خلال مفاوضاته مع الإتحاد الأوروبي. فيما يمكن سرد المكاسب بالتالي:
- إن سعي بريطانيا لتحريك عصا الإنفصال، أدى لمنح بعض الدول الأعضاء حق الإعتراض على قوانين جديدة في الإتحاد (دون إعطائها حق الفيتو). وهو ما جاء لصالح بريطانيا تحديداً.
- كما منحت هذه المفاوضات، حرية أكبر لبريطانيا، وجعلتها في موقعٍ مؤثر على آلية وضع القوانين المالية من "مدينة لندن"، على الرغم من أنها لا تستطيع الخروج عن قوانين الإتحاد المشتركة للبنوك ومؤسسات الإئتمان في الدول الأعضاء.
هل يشكل الإنفصال مصلحة لبريطانيا؟
عددٌ من النتائج المتوقعة والتي يُشير لها الخبراء في هذا المجال. وهو ما يمكن تقسيمه بين النتائج السياسية والإقتصادية. سياسياً فإن العديد من المراقبين يؤكدون بأن انفصال بريطانيا عن الإتحاد الأوروبي، سيكون بمثابة ضربةٍ هائلة للحكومة البريطانية، والمصالح التي تمثلها، بالإضافة إلى الشركات الدولية الحليفة لها. وهنا فإن النقاش الذي يجري اليوم في بريطانيا، وهذا بحسب ما تشير الصحف البريطانية، يقع حول أهمية الخطوة الديمقراطية في تفويض الشعب لقرارٍ من هذا النوع، في حين قد يكون له نتائج كارثية على بريطانيا، خصوصاً بأن انفصال بريطانيا يعني حتماً انهياراً وتغييراً في نظام الحكم التقليدي فيها. وهو الأمر الذي دعمته انقسامات الحزب المحافظ، والتي كشفتها خطوة الإستفتاء حول الإنفصال، الأمر الذي سيستمر بعد نتائج الإستفتاء.
على الصعيد الإقتصادي، يُشير الخبراء أنّه في حال قرر الشعب البريطاني الانفصال عن الاتحاد، فإن ذلك سيأخذ سنواتٍ من الوقت لتحديد آليته من حيث التنفيذ. لكن هذا الإنفصال سينعكس بشكلٍ سلبيٍ على موقع بريطانيا العالمي إقتصادياً. ولعل الخطر الأكبر يكمُن في خروج بريطانيا من السوق الأوروبية كنتيجةٍ لذلك. وهو الأمر الذي ظهرت حالياً، العديد من الإشارات له، حيث حذرت العديد من المصارف من أنها قد تبحث لنفسها عن مركز جديد لها في حال خروج بريطانيا من الإتحاد. وهو ما أعلنته "جمعية المصرفيين البريطانيين" في دراسة نشرتها، حول أن 60 بالمئة من المصارف حذرت من أن الإنفصال سيؤثر سلباً على أعمالها.
في السياق ذاته كشفت صحيفة الغارديان، خلال شهر آب الماضي، عن دراسة قام بها بنك انكلترا حول المخاطر الإقتصادية التي قد تنجم عن خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من أنه كان من المفترض أن تبقى هذه الدراسة سرية، لكن بعض العناصر فيها سُرِّبت الى الإعلام الأمر الذي أحدث ضجة ضخمة في الداخل البريطاني.
بالإضافة الى ذلك نشرت شركة "برايس ووترهاوس كوبرز" سيناريوهاتٍ لما قد يحدث بعد الإنفصال. وتوقعت أن تُوقِّع بريطانيا عقد اتفاق تجاريٍ مع الإتحاد الأوروبي مباشرةً، مع الحفاظ على الإتفاقيات التجارية مع باقي العالم، لكن ذلك سيؤدي حتماً الى إنخفاضٍ في الإستثمارات، وتقلّص الناتج الإجمالي المحلّي 3% مع حلول عام 2020. وفي حال لم تقم بريطانيا بذلك، أي أنها لم توقع اتفاقية تجارية مباشرة مع الإتحاد، فإنها تصبح مُرغمة بالإلتزام بقوانين منظمة التجارة العالمية، وهو ما سيعيد الحواجز الجمركية. لكن ذلك سيُكبد بريطانيا العديد من الخسائر الإقتصادية.
بين المخاطر والتداعيات تعيش بريطانيا مرحلةً تعتبر الأصعب في تاريخها. فالدولة التي كانت عظمى، تعاني اليوم من هدوءٍ حذرٍ ينتظر نتائج الإستفتاء المُقرَّر بعد أشهر. في حين يبقى الجدال بين المؤيدين والمعارضين للإنفصال، سيد الموقف الداخلي.