الوقت- لم تعد الجرائم المرتكبة بحق الأطفال تقتصر على القصف والحصار والقتل المباشر، بل انتقلت إلى مستوى أكثر خبثًا وتعقيدًا: استغلال الألم الإنساني نفسه كأداة للتمويل والاحتيال. التحقيقات الأخيرة التي نشرتها مؤسسات صحفية مستقلة في أوروبا الشرقية كشفت جانبًا مظلمًا من هذا المسار، يتمثل في شبكات مرتبطة بكيانات صهيونية تجمع ملايين الدولارات عبر حملات تبرعات وهمية باسم أطفال مرضى، بعضهم من غزة، وآخرون من أوكرانيا.
وحسب التحقيق الذي نشره موقع Factcheck.bg بالتعاون مع صحيفة Kyiv Independent الأوكرانية، حول شبكة احتيال تستغل الأطفال المصابين بالسرطان ، تعقّب موقعا فكتشيك وكييف إندبندنت شبكة احتيال دولية تستخدم صور وقصص أطفال أوكرانيين مرضى لجمع ملايين الدولارات من التبرعات، وكشف التحقيق أن عدة شركات ضالعة في هذه الشبكة، من بينها شركات مقرها في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
هذه القضية لا تتعلق بعمليات نصب فردية أو حالات معزولة، بل تكشف نمطًا منظمًا ومتكررًا يوظف صورة الطفل المريض، وخاصة الطفل الفلسطيني أو القادم من مناطق النزاع، لاستدرار التعاطف العالمي وتحويله إلى مصدر دخل، دون أن يصل المال إلى من يفترض أنهم المستفيدون.
الطفل أداة مالية: من ضحية حرب إلى مادة إعلانية
في السنوات الأخيرة، ومع تصاعد العدوان على غزة، انتشرت آلاف الحملات الرقمية التي تدّعي جمع تبرعات لعلاج أطفال فلسطينيين مصابين بالسرطان أو الجروح الخطيرة، بزعم حاجتهم لعلاج عاجل في الولايات المتحدة أو أوروبا، كثير من هذه الحملات تستخدم صورًا مؤثرة لأطفال على أسرّة المستشفيات، مع نصوص درامية مصاغة بعناية، وتُموَّل بإعلانات مدفوعة تستهدف المستخدمين في الغرب.
غير أن التحقيقات أظهرت أن عددًا كبيرًا من هذه الحملات لا يرتبط فعليًا بأي مؤسسة طبية أو عائلة فلسطينية حقيقية، بل يُدار عبر شركات ومنظمات “غير ربحية” مسجلة في الولايات المتحدة وبريطانيا، وتستخدم منصات إسرائيلية لجمع الأموال، مع غياب شبه كامل للشفافية.
الأخطر من ذلك، أن بعض هذه الحملات لا تستند أصلًا إلى أطفال من غزة، بل تستخدم صور أطفال من أوكرانيا أو دول أخرى، وتعيد تسويقهم على أنهم “ضحايا القصف الإسرائيلي” أو “أطفال غزة المحاصرين”، في عملية تلاعب مزدوجة: سرقة صورة الطفل، وسرقة قضية فلسطين في آن واحد.
أوكرانيا كنموذج كاشف: كيف تعمل الشبكة؟
التحقيقات التي أجرتها منصات مثل Factcheck وKyiv Independent كشفت تفاصيل دقيقة عن آلية العمل، أطفال أوكرانيون مرضى، بعضهم مصاب بالسرطان، تُلتقط لهم صور ومقاطع فيديو داخل مستشفيات محلية، تُمنح العائلات مبالغ رمزية لا تتجاوز ألفي دولار، مقابل توقيع أوراق تسمح باستخدام الصور "لأغراض خيرية".
بعد ذلك، تُطلق حملات دولية تجمع ما بين 500 إلى 700 ألف دولار باسم الطفل الواحد، مع تغيير اسمه، وتزوير نوع مرضه، وادعاء حاجته لعلاج عاجل في الولايات المتحدة، العائلة لا تعلم بحجم الأموال المجموعة، ولا تتلقى سوى الفتات.
هذه الآلية نفسها استُخدمت، وفق تتبع إعلامي، في حملات تدّعي مساعدة أطفال من غزة، مع فارق واحد:
في حالة غزة، يصعب على العائلات الوصول إلى الإعلام أو ملاحقة الجهات المحتالة، بسبب الحصار، وانقطاع الإنترنت، وتدمير البنية الصحية.
كيان الاحتلال كوسيط “إنساني”: مفارقة أخلاقية فاضحة
المفارقة الصادمة أن الاحتلال الصهيوني، المتهم دوليًا بقتل آلاف الأطفال في غزة، يظهر في هذه الحملات بصورة “الوسيط الإنساني” الذي يجمع التبرعات “لإنقاذ الأطفال”، هذا ليس تناقضًا عرضيًا، بل جزءاً من استراتيجية أوسع تُعرف بـتبييض الجرائم عبر العمل الخيري.
فبدل أن تُستخدم التبرعات لدعم مستشفيات غزة أو علاج الأطفال المصابين فعلًا، تُضخ الأموال في شبكات مالية غامضة، بينما يستمر القصف، ويُمنع دخول الأدوية، ويُترك الأطفال الفلسطينيون للموت البطيء.
بعبارة أوضح:
الاحتلال يقتل الطفل بيد، ويجمع المال باسمه باليد الأخرى.
التكنولوجيا أداة الجريمة
لعبت منصات التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في إنجاح هذه الحملات، الإعلانات الممولة، وخوارزميات الاستهداف العاطفي، وعدم التدقيق في هوية الجهات المنظمة، كلها عناصر جعلت من الاحتيال الإنساني تجارة مربحة.
اللافت أن بعض هذه الحملات تحجب عن المستخدمين في غزة أو أوكرانيا، ما يقلل احتمال اكتشاف العائلات لاستغلال صور أبنائها، كما أن منصات جمع التبرعات المستخدمة لا تلزم الجهات القائمة على الحملات بالكشف عن بيانات مالية واضحة أو تقارير إنفاق.
ازدواجية المعايير الدولية: لماذا لا يُحاسَب أحد؟
لو كانت هذه الشبكات مرتبطة بدول أو جماعات مصنفة “معادية للغرب”، لتحولت القضية إلى فضيحة عالمية، لكن حين تشير الأدلة إلى كيانات مرتبطة بكيان الاحتلال الاسرائيلي، تتباطأ التحقيقات، وتُختزل الجرائم في “ثغرات قانونية” أو "سوء إدارة".
هذا الصمت لا يشرعن الجريمة فقط، بل يشجع على توسعها، ويجعل من الأطفال وقودًا دائمًا لاقتصاد الاستغلال.
جريمة بلا دماء… لكنها لا تقل فظاعة
قد لا تُسفك الدماء في حملات التبرعات الوهمية، لكن ما يحدث هو قتل معنوي وأخلاقي، وسرقة لكرامة الأطفال، وتحويل معاناتهم إلى سلعة في سوق السياسة والمال، وفي السياق ذاته، تتقاطع هذه الممارسات مع سجل أوسع من الانتهاكات بحق الأطفال الفلسطينيين، سواء في السجون أو في سياق العدوان على غزة، ما يعكس نمطًا أخلاقيًا واحدًا يرى في الطفل أداة للربح والهيمنة، لا إنسانًا يتمتع بحقوق وحماية، ويحوّل الألم الإنساني إلى وسيلة لتحقيق أهداف سياسية ومالية..
إن استغلال أطفال غزة وأوكرانيا في هذه الحملات يكشف وجهًا آخر للاحتلال الصهيوني:
احتلال لا يكتفي بالأرض، ولا بالحياة، بل يحتل الألم نفسه، ويحوّله إلى مشروع ربح.
وأمام هذا الواقع، يبقى السؤال مفتوحًا: كم طفلًا آخر يجب أن يُستغل، قبل أن يسقط القناع الإنساني الزائف؟
